جدل معاداة السامية في ألمانيا: يهودي، إسرائيلي، صهيوني؟


ومع ذلك فإن ما تسوقه صحيفة "بيلد" هو النقيض التام لبحثه: فكتابه لا يقدم استطلاعَ رأي شاملاً حول موقف المسلمين في ألمانيا من قضية العداء للسامية، وإنما محاولة فهم الآراء والعواطف وأيضا خطابات العقلنة، إذ كما يقول إن "الزعم الذي يقول إن العداء للسامية منتشر أكثر بين المسلمين مقارنة بغير المسلمين، أمر بدا لي غريبا وبحاجة لتفسير"، ولهذا تم التركيز في المقابلات فقط على أكاديميين من العالم الإسلامي، وممن يعيشون منذ زمن في الغرب. لقد أجرى مقابلات منفتحة ومليئة بالثقة، ولهذا فإن ما تروج له صحيفة "بيلد" سيء للغاية: "فالعديد ممن حاورتهم لعلهم يقولون الآن: الوغد حضر إلينا وادعى الصداقة، وبعدها طعننا في الظهر". إن رنان، الذي سبق ونشر كتابا حول الجنود الإسرائيليين، هو -كما يظهر لنا الآن- رجل الكلمات الواضحة، التي تزخر بالسخرية والمرارة. لكن الأمر يتعلق لديه بسجال في خدمة العقل. فأَنْ تتعرض طفلة يهودية للشتم والتهديد في برلين، فهذا الأمر يعتبره قبيحا، لكن هل ذلك بالفعل تعبير عن العداء للسامية لدى المسلمين؟ "إن أغلبية اليهود لا مشكلة لهم في الشارع، إذ لا يتم التعرف عليهم كيهود"، يقول رنان، فهو نفسه لا يشعر بعداء الآخرين له وهو في الشارع، لكنه يفترض أنه يتم النظر باحتقار لكل امرأة محجبة. "فهل نحتاج لمؤسسة اتحادية ضد العداء للسامية أم ضد الحقد على الأجانب؟". وتقديم أوامر بتنظيم رحلات للمسلمين إلى المعالم التذكارية للهولوكست؟ في أفضل الأحوال يتعلق الأمر "بعلاج صدمة"، لكن تأثير هذا العلاج غير دائم. وبدلا عن ذلك، يتمنى وجود معلمين، يكشفون النقاب عن أشكال التمييز داخل المدرسة والمجتمع، وعن بدايات سياسة الإقصاء، "الحماقات الصغيرة"، كما يسميها، والتي نغصت حياة جديه في الماضي، لما كانا يعيشان في فرانكفورت، في بداية الثلاثينيات، وكانا من أسرة بورجوازية مثقفة، مما دفعهم في النهاية للهرب إلى فلسطين، وذلك قبل أن يعرف المرء أي شيء عن الهولوكست. أبوه ذهب برفقة والديه من برلين إلى فلسطين. يتذكر رَنَان صورة لأبيه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، على شاطئ تل أبيب، وعلى بُعْدٍ منها: المدينة العربية يافا وجَمَلاً يعبُر المكان: "أبي كان يرتدي بدلة وربطة عنق. كان يريد دائما أن يكون أوروبيا. وكان يحن كثيرا إلى برلين". فلسطين، البلد المقدس والمنهك، هي بالنسبة لرنان حجر رحى كل تفكير في اليهود. أما حول القرآن والذي يرى البعض أنه يتضمن آيات معادية لليهود مثل الإنجيل، فإنهم لا يقولون هنا إلا كلمات تائهة. فبالنسبة له، فإن العداء لليهود في الشرق، والذي ارتبط بظروف المنطقة، مختلف عن تقليد العداء لليهود في أوروبا، والذي اتخذ أشكالا دينية واقتصادية وعنصرية، والذي يجد بدايته في الحقد على الشعب الذي سلم المسيح للصلب، ليبلغ ذروته مع الهولوكست. وحتى صعود الصهيوينة والهجرة اليهودية إلى فلسطين، كان اليهود في المجال العربي أقلية من بين أقليات أخرى. طبعا، انتصار الفاشية في أوروبا كانت له جاذبية في العالم العربي أيضا وألهم حركات مثل حزب البعث، بل إن مثقفين مثل سلامة موسى اعتقدوا بتفوق "العرق الفرعوني". لكن بالنسبة للحركات العربية، بل وحتى بالنسبة للإخوان المسلمين، ورغم برامجها المعادية لليهود، فإن فكرة العرق المتفوق كانت تتناقض مع المطلب الكوني للإسلام، والذي يرى أن كل المسلمين سواسية.
لقد أوضحت مؤسسة لايبنيتز للشرق المعاصر عبر سلسلة من الكتابات التي نشرها، والتي اشتغلت على هذه الأمثلة وغيرها، كيف أن الزعم الذي يقول بـ "انجذاب العرب" للأيديولوجية النازية (المَصْدر: بيتر فين، رونيه فيلدانغل في كتابهما: "عميان أمام التاريخ") أمر كاذب ولا يخلو من نزعة شريرة. فإحدى الصحف الرائدة في مصر، الهلال، تصف في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين عذاب اليهود في أوروبا، مؤكدةً بأن الشعب اليهودي مطارد ومقموع منذ قرون. رنان: الحقد على الاحتلال الإسرائيلي مرتبط بتجربة القمع اليومية صحيح أن المثقفين المصريين قرأوا كتب المؤرخ أوسفالد شبينغلر، لأن بلدهم كان يقف على أعتاب أزمة كبيرة، لكن بالنسبة لمثقفين مثل محمد حسين هيكل، فإن أنظمة العنف الفاشية لم تكن تمثل مخرجاً من الانحطاط، ولكن دليلا على القوة المدمرة للحداثة الغربية. فبالنسبة لهم، كممثلين لإنسانوية مسالمة شرق ـ أوسطية، لم يكن بالإمكان القبول بالفاشية. ولقد ساهمت الحروب الخاسرة للعرب وانهيار عملية السلام العربية-الإسرائيلية في تحول العلاقة بين اليهود والعرب إلى عداء سياسي، يزخر بالأكاذيب وحملات التشويه، كما الحال في كل حرب. "لكن الحقد المسيحي على اليهود لا يقوم على مشكلة واقعية"، كما يؤكد رنان: "في حين يواجه المسلمون في الشرق الأوسط صراعا حدوديا مع اليهود، منذ أن نجح المشروع الصهيوني في فلسطين". العداء للسامية..."عداء لليهود كيهود كمخلوقات متخيلة" إن العداء للسامية، كما يصف ذلك رنان اعتمادا على ما كتبه الفيلسوف الإنكليزي بريان كلوغ، هو: "عداء لليهود كيهود"، كمخلوقات متخيلة، تملك قوة وتأثيرا على مستوى العالم. ولهذا فإن العداء لليهود، باعتبار أنه يتم الادعاء أنهم يملكون البورصة ويسيطرون على البيت الأبيض والكوكاكولا، هو حكم مسبق معاد للسامية. لكن الحقد على الاحتلال الإسرائيلي من جانب العرب، له علاقة بواقع تجربة الاحتلال التي يعانون منها، بل حتى لو حمل شباب عرب لافتات في المظاهرات ضد إسرائيل، من مثل: "إسرائيل تقتل الأطفال"، فليس لذلك علاقة بالصور المعادية للسامية التي كانت تنتشر في القرون الوسطى الأوروبية (فهم لا يعرفون تلك الصور)، بل يعرفون الهجمات الإسرائيلية على المناطق المختلفة. وليس هذا فقط، بل حتى اللافتات المعادية لليهود لم تكن تعني اليهود بل الإسرائيليين، وحتى نكون أكثر دقة: السياسة الإسرائيلية. ولا ريب أن تأكيد الاختلاف بين "اليهودي" و"الإسرائيلي" و"الصهيوني" من أبرز الأمور التي يتوجب التركيز عليها في الكتب المدرسية الألمانية. مقترحات أخرى: إدماج أكبر وعدم المبالغة في الشعور بالقلق.
وحين تقوم صحيفة "بيلد تسايتونغ" ومعها كل أصوات اليمين، بمطالبة السياسيين -في حركة منافقة منها- بأن يعملوا حتى "لا يجد العداء الإسلامي للسامية موطئ قدم في أوروبا"، فإنها تقلب الواقع على رأسه، بل إن رنان يؤكد بأنه قد سمع من بعض الألمان ما هو أكثر من دعوات مقاطعة لمنتوجات شركة كوكاكولا. وتكمن "حقارة" النقاش الألماني الحالي بالنسبة إلى الباحث رَينان في واقع أن "الألمان يشعرون بالغبطة، لِما يظهر لهم المرء بأن عداء المسلمين للسامية أسوأ من عدائهم لها"، فالأمر متعلق "بطريقة غريبة لتبرئة أنفسهم"، إذ عبر ذلك تتحرر ألمانيا من صدمة انجرافها نحو اليمين، هذا اليمين الذي يعلن عن عدائه للسامية من دون خجل. إن التركيز على الخطر الإسلامي المزعوم، يعفي المجتمع الألماني الحائر من التعامل مع جذور العداء للسامية لديه واستمرار هذا العداء بداخله. سونيا زكريترجمة: وفاء حسينحقوق النشر: زود دويتشه تسايتونغ / موقع قنطرة 2018 ar.Qantara.de