إخفاق تاريخي
كان الهجوم الوحشي الذي شنته حماس وجماعات أخرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، "لحظة تاريخية فاصلة" أيضا بالنسبة لألمانيا. كان من الواضح لجميع الخبراء منذ البداية أنها نقطة تحوّل سياسية. لقد تجاهل العالم لفترة طويلة للغاية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي لم يحسم بعد، وأرجأ اتخاذ الخطوات نحو حل سياسي له.
تبدو ألمانيا حالة استثنائية من حيث أن العديد من الألمان لم يستوعبوا بعد الدلالة التاريخية التي يمثلها السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب في غزة. فلا توجد طريقة أخرى لتفسير إخفاق الساسة الألمان في عدم التفاعل على النحو المناسب حتى الآن، أو الاستجابة بشكل غير صحيح مع ما يحدث هناك. وهذا الإخفاق قد يكون ثمنه فادحا.
كان قرار الحكومة الألمانية والبرلمان الألماني بالوقوف في البداية إلى جانب إسرائيل والتأكيد على حقها في الدفاع عن النفس صائبًا. ومع ذلك، كان من الواضح في وقت مبكر للغاية أن الحكومة والجيش الإسرائيليين كانا يردان بقوة غير متناسبة تمامًا ولم يظهرا أي اعتبار يذكر بحياة المدنيين. كان على السياسيين الألمان أن يتفاعلوا مع هذا الأمر قبل ذلك بكثير، وبشكل أكثر حسماً.
كان أولاف شولتز أول رئيس حكومة أوروبية يسافر إلى إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولم يعترض عندما وصف بنيامين نتنياهو حماس بأنها "النازيون الجدد". وبعد ذلك بوقت قصير، استخدم نتنياهو أسطورة العماليق لتبرير الحرب على غزة من خلال الاستعارات الدينية كمعركة ضد الشر المطلق. في 9 أكتوبر/تشرين الأول، أمر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بفرض حصار كامل على قطاع غزة، وبعد ذلك لم يعد يدخل القطاع أي كهرباء أو طعام أو وقود. وبذلك، أعلن عن جريمة حرب صارخة.
التركيز على إلحاق الضرر وليس على الدقة"، هكذا وصف المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري الاستراتيجية العسكرية منذ البداية. فيما أعلن الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أن جميع سكان غزة مذنبون، وبالتالي فإن التمييز بين المدنيين والمقاتلين لا داعي له. وكتب لاحقًا توقيعه ورسالته الشخصية على القنابل الموجهة إلى غزة.
ينعكس كل ما سبق في لوائح الاتهام التي ينظر فيها الآن في لاهاي. وترى جنوب أفريقيا أن هناك أدلة كثيرة على نية الإبادة الجماعية، وقد رفعت القضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في نهاية عام 2023. كما تقدم كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، بطلب إصدار مذكرات اعتقال ضد نتنياهو وغالانت في مايو/أيار 2024، محملاً إياهما مسؤولية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.
وتتهم وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، إسرائيل بارتكاب عدد كبير من جرائم الحرب في غزة، سواء بالقصف العشوائي دون أي اعتبار للمدنيين، وشن الهجمات على المستشفيات ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي والجامعات والمدارس وغيرها من البنى التحتية المدنية. جعلت هذه الجرائم قطاع غزة غير صالح للحياة. وجرى إنشاء "معسكرات تعذيب" للسجناء، حسبما أفادت منظمة بتسيلم لحقوق الإنسان، كما تُستخدم سياسة التجويع المتعمد ضد سكان غزة.
"لم يعد هذا بلدي"
كان هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، نقطة تحول أيضا بالنسبة للفلسطينيين في ألمانيا. فقد الكثيرون أقاربهم في غزة خلال العام الماضي، وكذلك ثقتهم في وسائل الإعلام الألمانية. إليكم 4 شهادات من برلين.
نتنياهو يجرّ حلفاء إسرائيل إلى الهاوية
حتى الآن، فشل السياسيون الألمان في الرد على أي من تلك الأفعال. حتى الرئيس الأمريكي جو بايدن كان أكثر انتقادًا لأفعال إسرائيل من المستشار الألماني شولتس. فقد وصف بايدن القصف الإسرائيلي بأنه "عشوائي" وحذر في وقت مبكر من الحرب من أن على إسرائيل أن تتجنب ارتكاب نفس الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ولسوء الحظ، ذهب تحذير بايدن أدراج الرياح وفشل في اتباع كلماته بأي إجراء لكبح جماح إسرائيل. وبكل جرأة، قرر نتنياهو ضرب لبنان بكل قوة أيضًا. وعلى غرار الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، تجر إسرائيل حلفاءها أكثر فأكثر إلى هاوية أخلاقية.
وسيكون لذلك عواقب. ولا يزال السباق على الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني على المحك. فقد أحدثت الحرب انقسامًا عميقًا في الحزب الديمقراطي. فقد تم تشويه سمعة بايدن بوصفه "جو الإبادة الجماعية" لفشله في الرد على عمليات القتل الجماعي في غزة، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت كامالا هاريس ستتمكن من الهروب من ظله خلال حملتها الانتخابية.
كما عانت الأحزاب التي تشكل الائتلاف الألماني الحاكم، ولا سيما الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، من أضرار جسيمة في سمعتها في أعقاب الولايات المتحدة. وقد يواجهون الآن نفس مصير حزب العمال البريطاني في عهد توني بلير، الذي دُمرت سمعته بعد أن انحاز بلا تحفظ إلى جانب الولايات المتحدة عندما غزت العراق في عام 2003. لم يتعافَ حزب بلير لفترة طويلة وفقد ثقة الناخبين، واستغرق الأمر أكثر من عقد من الزمان حتى تمكن حزبه من تشكيل حكومة مرة أخرى. أيضا، فقدت أحزاب الائتلاف الحاكم في ألمانيا الثقة، وتراجعت في استطلاعات الرأي وانتخابات الولايات الأخيرة.
بموقفها من إسرائيل، عزلت ألمانيا نفسها في الخارج. فهي واحدة من آخر الدول المتبقية التي وقفت وراء نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي محكمة العدل الدولية، انحازت الحكومة الألمانية على الفور إلى جانب إسرائيل ورفضت اتهام جنوب أفريقيا لها بارتكاب الإبادة الجماعية. وفي غضون ذلك، انضمت أيرلندا وإسبانيا إلى دول مثل تشيلي والمكسيك في صف جنوب أفريقيا بالقضية أمام أعلى محكمة في الأمم المتحدة، في إشارة إلى مدى انقسام أوروبا حول هذه القضية.
في أبريل/نيسان، كانت ألمانيا في قفص الاتهام عندما اتهمتها نيكاراغوا بالمساعدة والتحريض على الإبادة الجماعية. وعلى الرغم من أن المحكمة رفضت في قرارها الأولي طلب وقف صادرات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، إلا أنه من الواضح أن جزءًا كبيرًا من المجتمع الدولي يحمّل ألمانيا مسؤولية الموت الجماعي في غزة باعتبارها الحليف الوثيق لإسرائيل وثاني أكبر مورد للأسلحة.
ولم تتراجع سمعة ألمانيا في الدول العربية أو الإسلامية وحسب. فقد أظهرت قضايا المحاكم الدولية هذا التراجع في العديد من الدول في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، أي في معظم دول الجنوب العالمي. في يونيو/حزيران، حذر عالما السياسة ماركوس شنايدر ويانيس جريم في مقال نشراه بمجلة السياسة الدولية والمجتمع "IPS"، من أنه "قبل كل شيء، المجتمعات المدنية التقدمية والانتقادية هي التي تبتعد الآن عن الجمهورية الألمانية التي يُنظر إليها على أنها غير جديرة بالثقة". ومثل النعام، يدفن الساسة الألمان رؤوسهم في الرمال على أمل أن تنتهي كل هذه الأحداث. إنهم يرفضون مواجهة الواقع.
ألمانيا تتأرجح بين دعم إسرائيل وتطبيق القانون الدولي
بينما تدرس المحكمة الجنائية الدولية طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت وقادة حماس، تحاول ألمانيا الموازنة بين دعم إسرائيل وبين تطبيق القانون الدولي.
نزعات سلطوية في ألمانيا
مع تآكل هيبة ألمانيا، تكافح طبقتها السياسية بإصرار أكبر لفرض ما أعلنته من تأييدها لإسرائيل باعتبارها سبب الدولة (Staatsräson) أي مصلحة عليا بالنسبة لألمانيا، - وهو تفسير يبدو موضع شك يوم تلو الآخر. وبذلك، تُظهر ألمانيا تعصبًا سلطويًا وميولًا غير ليبرالية بشكل متزايد. فقد قمعت الشرطة الألمانية بعنف العديد من الاحتجاجات الجامعية و"مؤتمر فلسطين" في برلين بأكمله. كما جرى إدراج فنانين وعلماء ومثقفين آخرين انتقدوا السياسة الألمانية على القائمة السوداء أو تم إخضاعهم من خلال "بنود معاداة السامية" وغيرها من الأدوات المشبوهة. وتماشيًا مع هذا النمط من السلوك السلطوي المتصاعد، درست وزارة التعليم، مقترحات لمنع الأكاديميين غير المنضبطين الذين انتقدوا هذه السياسة الألمانية من الحصول على تمويل كان قد تم منحه بالفعل.
ومن خلال مجموعة من الإجراءات غير الليبرالية، تذهب السياسة الألمانية إلى أبعد بكثير من سياسة الولايات المتحدة في هذا الصدد، كما يقول الصحفي الألماني/البريطاني والخبير في الشؤون الألمانية هانز كوندناني في مقال لمجلة "Dissent" في مارس/أذار. ولتبرير هذه السياسات، تشير ألمانيا إلى مسؤوليتها التاريخية عن الهولوكوست. لكن هذا التفسير الخاص للتاريخ لا يمكن التوفيق بينه وبين القيم العالمية. فالفيلسوفة سوزان نيمان، التي ألفت ذات مرة كتابًا يشيد بسياسة التذكير الألمانية، تتحدث الآن عن "الفيلوسامية" الموصوفة مثلها مثل غيرها من "المكارثية" المؤيدة لإسرائيل. وقد وصف العالم السياسي دانيال مارفسكي، هذه السياسة بـ"القومية البديلة". ويحذر من أن على ألمانيا أن تختار بين سبب الدولة، والقانون الدولي.
في مواجهة الهجمات على المعابد اليهودية والشعارات المعادية للسامية، كان من الطبيعي والضروري أن يقف السياسيون الألمان دفاعًا عن اليهود في ألمانيا وأن يدينوا بالإجماع هذه الجرائم. لكن لم تصدر كلمة تعاطف واحدة مع السكان الفلسطينيين في ألمانيا، الذين فقد الكثير منهم أقاربهم ويعيشون في خوف على من تبقوا في غزة، وتحيط بهم الشكوك من كل جانب. ستظل عواقب الحرب في غزة محسوسة لفترة طويلة قادمة. ويقدر خبراء الأمم المتحدة أن إعادة إعمار القطاع قد يستغرق 80 عاماً. وسيستمر الشعور بهذه الصدمة لأجيال قادمة.
يجب على ألمانيا أن تقرر ما الذي يعنيه حقًا ما يسمى بـ"سبب الدولة" (Staatsräson). هل يعني التضامن مع الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني اللذين يريدان الأمن والسلام وإنهاء الصراع الدائر في إسرائيل وفلسطين؟، إذا كان الأمر كذلك، يجب على ألمانيا أن تخاطر أخيرًا بتغيير مسارها وفرض حظر على الأسلحة. وعليها أن تمارس الضغط على نتنياهو، بدلًا من إطلاق يده لتوسيع الحرب إلى لبنان وما وراءه.
هل نريد أن نستمر في دعم حكومة يمينية متطرفة لا تخفي خططها للطرد الجماعي للفلسطيينيين وأوهامها بالتصفية؟، وبذلك نبقي على رئيس حكومة في منصبه ليس لديه أي مصلحة في إنهاء الحرب؛ وهو ما يعني بالنسبة له مواجهة أسئلة غير سارة وربما حتى السجن.
لقد غيّر شولتس ووزيرة خارجيته أنالينا بايربوك من لهجتهما تجاه نتنياهو شيئًا فشيئًا في الأشهر الأخيرة. حتى أن نائب المستشار روبرت هابيك اعترف بأن تصرفات إسرائيل في غزة تتعارض مع القانون الدولي. ولكن هذا لا يكفي. ما لم تستخدم ألمانيا نفوذها، ستبقى هذه الكلمات فارغة. سيصبح الائتلاف الحاكم من التاريخ قريبًا، ولكن سيتعين علينا التعايش مع عواقب إخفاقات سياسته الخارجية في هذه اللحظة التاريخية لفترة طويلة قادمة.
قنطرة 2024