نادي الشعراء القوميين الموتى

تميل السياسة الثقافية الرسمية التركية إلى السير إلى الخلف والتعبير بلسان حال الدولة؛ حيث لا يوجد مكان للحداثة، حسب رأي كلاوس كرايزَر

​​تميل السياسة الثقافية الرسمية التركية إلى السير إلى الخلف والتعبير بلسان حال الدولة؛ حيث لا يوجد مكان للحداثة، إذ أن كل ما تفعله تركيا ومن دون تمييز هو تقديم أَحصنة خشبية طروادية ودراويش يرقصون في مولويّات من أَجل نشاطات العلاقات العامة الدعائية. تعليق بقلم كلاوس كرايزَر

نتيجة لعدم حضور مندوبين أَتراك رفيعي المستوى أَثناء منح اتحاد الناشرين الأَلمان جائزة السلام لعام 2005 في شهر تشرين الأَوّل/أكتوبر الماضي للكاتب التركي أورهان باموك، يتحتَّم طرح السؤال التالي على الجهات الرسمية في أنقرة: ما هو وضع السياسة الثقافية الخارجية التي تنتهجها تركيا؟

قامت تركيا في الخمسين سنة الماضية بتوقيع معاهدات ثقافية مع 75 دولة. إذ أَرسلت أنقرة مجموعات رباعية بآلات وترية من عازفي الموسيقى الكلاسيكية إلى باكستان وقامت بترميم مبان عثمانية في ليبيا وأَفرغت خزائن متحف قصر توبكابي من محتوياتها لتعرضها في نيويورك ولندن وطوكيو.

كانت أَلمانيا عندما عقدت حكومة رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس اتفاقية للتبادل الثقافي مع جمهورية أَلمانيا الاتحادية في عام 1957، لا تزال دولة خارجية بعيدة؛ لكنَّها أَصبحت فيما بين »دولة خارجية قريبة« وذلك من خلال هجرة اليد العاملة التركية إليها.

فلاسفة اليونان مع سلاطين بني عثمان

في البدء أَتبع الطرف الأَلماني التبادل الطلابي وتدريس اللغة الأَلمانية وأَعمال التنقيب عن الآثار في سنين ما قبل الحرب. اعتبر الأَلمان المهتمون بالثقافة تركيا بلدًا، تتسيده الآلهة القومية الحيثية وفلاسفة اليونان مع سلاطين بني عثمان.

كما اهتمت تركيا في أَيام أَتاتورك وعصمت إينونو بالعمل في الإذاعة والمسرح والأوركسترا ودور الأوبرا مثلما أَدارت مصانعها الجديدة ومنشآت التكرير. وكثيرًا ما كانت مكاتب وزارة التربية هي المحلات الوحيدة لبيع الكتب في المدن الريفية التركية. إذ كان يتم نشر كل الكتب تقريبًا في إسطنبول.

ظلَّت الدولة لفترة طويلة بعد محاولات الانتقال الأولى إلى نظام تعدّدية الأَحزاب، هي الطرف الأَهم في شؤون تبادل البضائع الثقافية. كان النشاط الثقافي المكثَّف للمصارف والشركات ولا يزال ميِّزة من ميِّزات تركيا. فإلى جانب المجموعات الموسيقية التابعة للدولة تشكَّلت مجموعات سمفونية وأوركسترا من خلال البرامج الثقافية بتمويل من مموِّلين ذوي نفوذ.

ولكن يتجلَّى بكل وضوح الوضع المحرج للسياسة الثقافية الخارجية التي تنتهجها الدولة التركية، وذلك إذا ما تصفَّحنا الكاتالوغات التي تم إعدادها في الوزارات التركية من أَجل الدورات الأَخيرة من معرض فرانكفورت للكتاب. إذ لا يمكن لأَى زائر من زوّار المعرض في فرانكفورت أَنْ يستدل بالنظر إلى هذه الكاتالوغات المملّة المكتوبة بلغة أَلمانية ركيكة، على مدى نشاط ودسامة المعرض الشقيق في إسطنبول المنظَّم من قبل اتحاد الناشرين.

يوجد في تركيا تقسيم شكلي للعمل الثقافي ما بين القطاع العام من جهة وبين دور النشر والمؤسسات الخاصة من جهة أخرى. حيث تعتبر الدولة نفسها - وذلك ليس فقط منذ عهد رئيس الوزراء إردوغان - وصيًا على الإرث الثقافي التركي العثماني والإسلامي، بينما تترك أمور الحداثة للسوق الحرّة.

وبما أَنَّ وزير الثقافة التركي يشترك منذ سنين في إدارة شؤون السياحة، فلا داعي للعجب، من استخدام تركيا ومن دون تمييز أَحصنة خشبية طروادية ودراويش يرقصون في مولويّات من أَجل نشاطات العلاقات العامة الدعائية.

سياسة ثقافية قصيرة النظر

إنَّ مدى إهمال الساسة الأَتراك القائمين على الثقافة للحداثة المطبوعة بطابع أَتاتورك ومن خلفوه مدهش جدًا. كشفت وزارة التربية الوطنية أَوراقها قبل فترة قصيرة، وذلك من خلال إقرارها قائمة تحتوي على مائة عمل أَدبي، تنصح الوزارة طلبة المرحلة المتوسِّطة بقراءتها.

تضم هذه القائمة 73 عنوانا لكتب تركية و27 عنوانا لكتب من لغات أخرى مترجمة إلى التركية. وقد أُدرجت في مقدِّمتها بشكل لا إرادي خطبة أَتاتورك الطويلة التي تغلب عليها التفاصيل حول حرب تحرير الأَناضول. ثم تليها أَعمال أَدبية عثمانية وأخرى من بدايات العهد الجمهوري. كذلك يبين إقرار مؤلَّف غوتة "مأساة فاوست" (بترجمة تركية) ككتاب أَلماني وحيد، تنصح الوزارة تلاميذ الصف الـ7 حتى الـ9 بقراءته، مدى سوء وحماقة هذا الاختيار.

من الغريب أَنْ تظهر في قائمة المائة عنوان أَسماء كتَّاب يساريين، نظرًا إلى الاعتداءات البشعة على أورهان باموك. إنَّ من يُطالع هذه القائمة لن يصدِّق ما يقرأه بعينيه، عندما يجد اسم الروائي التركي صباح الدين علي، الذي قُتل رميًا بالرصاص في عام 1948 أَثناء محاولته الهرب إلى بلغاريا، والشاعر الشيوعي الملتزم ناظم حكمت الذي مات عام 1963 في منفاه في الاتحاد السوفييتي، واسم أَشهر كاتب ساخر في عصر الحداثة التركي، عزيز نيسن (توفى عام 1995)، الذي أَباح لقلمه أَنْ يسخر بأسلوب مذهل من أَبناء قومه وقادتهم.

فهل تم إدراج أَسماء هؤلاء المؤلِّفين العظام من أَجل التغطية على العدد الكبير من أَسماء الكتَّاب المتديِّنين القوميين - أَم أَنَّ الوزارة تريد بذلك الإعلان عن نهاية الاستقطاب ما بين اليسار واليمين؟ لكن ذلك يترك انطباعًا مفاده أَنَّ الأدباء الموتى هم فقط الأدباء الحسنون في هذا المجمع.

غير أَنَّ تركيا كانت ولا تزال لا تنفق على أَيّ مركز ثقافي في أَلمانيا. أَمَّا »المراكز الثقافية« الموجودة في بعض القنصليات التركية فهي موجَّهة إلى المواطنين الأَتراك المقيمين في أَلمانيا كما أَنَّها غير متعدّدة الجوانب.

تقيم تركيا بعض حفلات العزف على البيانو لفّنانين وفنّانات أَتراك هنا ومعارض صغيرة لرسّامين معاصرين هناك؛ لكن لا يمكن لمثل هذه النشاطات »حسنة النية«، أَنْ تُخفي حقيقة أَنَّ تركيا لا تُقدِّم في أَلمانيا منبرًا من أَجل خوض نقاشات حول مواضيع هامة من الثقافة والتاريخ.

سوف يكون من بين هذه المواضيع مثلاً مسأَلة إبادة الشعب الأَرمني. كما لا يزال من المستحيل أَيضًا، أَنْ يقوم مدير أَو مديرة مركز - ولنطلق على هذا المركز اسم "مركز أَتاتورك في برلين" - بالدعوة إلى إجراء نقاش عن موضوع "اللجوء والإبعاد".

ولكن بدون أن يترك ذلك أي أثر عليهم يغزو كلّ من طارقان (موسيقى) وفاتح أكين (مخرج) وفريدون زعيم أوغلو (كاتب) الأَسواق الأوروبية. يضع القائمون على موقع وزرارة الخارجية التركية على الإنترنت أَسماءهم في صفحة "النجاحات والجوائز المحققة في الخارج" مع الكثير من الرضى عنهم.

ثقافة من أجل السياحة

من المسلَّم به أَنَّه يجب على تركيا أَنْ تخدم بسياستها الثقافية مجموعات عملاء متناقضة جدًا: من السيّاح غير المهتمين بالسياسة القادمين بغية التعلم أَو الاستجمام والموظفين العاملين في المؤسسات الأوروبية في بروكسل والمغتربين الأَتراك المقيمين في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، من تلاميذ المرحلة الإبتدائية حتى الأَكاديميين، ومن الأَقلية المسلمة الناطقة باللّغة التركية في قرغيزيا في سلسلة جبال آلتاي حتى المسيحيين القاقوز في ملدوفيا.

وفي ذلك تتم إدارة المنشآت التركية المختصة بالشؤون الثقافية من قبل مديرين مختلفين جدًا؛ من ليبراليين متعلِّمين يتحدّثون من دون توتّر عن التعددية الثقافية وما دون الهوية، عندما يعنون الأَكراد أَو الأَرمن، ومن قبل كماليين بعقول فولاذية تصل حد الطورانية، لا يمكنهم النظر إلى ما يتعدى المواضيع التركية.

ليس من المتوقَّع أَنْ تنتهج أَنقرة سياسة ثقافية متينة. لكن من حقّ أَلمانيا كونها بلدًا يستضيف أَكثر من مليوني تركي إلى جانب علاقاتها الثقافية غير الرسمية، أَنْ تؤسس فيها تركيا مؤسسة ثقافية يتم فيها تمثيل تركيا أَكثر مما يتم ذلك في المراكز السياحية والقنصليات التركية.

بقلم كلاوس كرايزَر
ترجمة رائد الباش
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2006
صدر المقال في صحيفة زوددويتشه تسايتونغ

يعمل كلاوس كرايزَر أستاذ الدراسات التركية المتقاعد، الدكتور كلاوس كرايزَر مؤلفًا وناشرًا في مدينة كولونيا.

قنطرة

معرض "بيكاسو في اسطنبول"
أهمية هذا المعرض الذي أقامه متحف شكيب سبنجي لا تتأتى فقط من كونه معرضا لأعظم رسام في القرن العشرين وانما أيضا لكونه أول معرض فني فردي لأحد ممثلي الحداثة الغربية، تشهده تركيا على الاطلاق. تقرير صاموئيل هرتزوغ

اورهان باموك وجائزة السلام
تسلم أورهان باموك، الذي يعد من أشهر كتاب الجيل الجديد في تركيا، جائزة السلام 2005 لاتحاد الناشرين الألمان. وفي كلمة التكريم أشار الشاعر والمترجم زارتوريوس إلى أن أعمال الكاتب هضمت كل التيارات الأدبية الفائتة وتمزج على نحو رائع الأساليب الشرقية بالغربية.