مشهد محاكمة مبارك وعقلنة فكرة القانون
مثلما يتميز المصريون بالسخرية من واقعهم المؤلم الذي يتجلّى في نواحٍ كثيرة يكونون على النهج ذاته من أكثر الشعوب قدرة على التواؤم مع القانون ليس بالاستجابة له وإنما بالتحايل عليه، لقناعتهم التي ورثوها عبر قرون من توالي الحكم الأجنبي عليهم أن هذا القانون فصّل ليعاقبهم فقط من دون الحكام والقادرين من أصحاب النفوذ... لذلك، كان تاريخهم يُسجل في اللحظات التي كانت تمتلك فيها فئة من الشعب الجرأة لتقف في وجه الحاكم الذي يصنع ويفصل هذا القانون عليه ليس من منطلق العدالة وإنما من منطلق تحقيق مصالحه. تجسد ذلك في مواقف كثيرة كان أبرزها في العصر الحديث وقفة أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق المصحوبة بمقولته الخالدة "لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً"، والتي انتصرت للفطرة الإنسانية ولمبدأ مهم ارتبط بآدمية الإنسان وكرامته في كونه ولد حراً وليس عبداً. وعلى النهج ذاته سارت ثورة 1919 بوقوف الشعب في وجه من يطبخون ويفصلون القوانين لتخضعهم للحكام والمحتلين الأجانب وذوي السلطان.

دولة القانون

ويمكن القياس علــى نمــاذج كثيرة تسير على هذا النهج في قــطاعات مختــلفة من المجتمع فرّغت قيمة القانون من مضمونه وجعــلته بدلاً من كونه أداة لتطــبيق العدالــة أداة لتـــكريس الظــلم وخــلق الـــفوضى في المجتمع بثنائية التطبيق... مثل عمليات البناء العــشوائي في العــمران في مصر كأحد الميادين التي كــانت واضــحة للعــيان فــي انتــهاكها لفكرة القانون وقيمته. وعندما جاءت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) وأطاحت بالنظام السابق كنا نتحسس اللحظات والأفعال التي تحدث ثورة مماثلة في السلوك وعقلية المجتمع مماثلة لحدث الثورة التي كسرت حاجز الخوف لدى قطاع كبير من المصريين جعلتهم يثيرون في وجه الحاكم، إلى أن جاءت لحظة محاكمة الرئيس السابق ونجليه ليشاهدها الجميع في سابقة غير مرصودة في التاريخ المصري منذ وجدت مصر من أيام الفراعنة بأن يحاكم رئيسها على مرأى ومسمع من شعبها.
وأهمية حدث المحاكمة بهذا الشكل الذي يعجز العقل عن أن يستوعبه تعيد الاعتبار لفكرة القانون وتلغي هذه الثنائية في الوعي الجمعي للمصريين، وتكسر هذه القناعة التي ظلت ثابتة لديهم بأن القانون خلق ليطبق على الضعيف فقط ومن ثم أصبحت عملية التحايل عليه مشروعة... وبالتالي مشهد المحاكمة يسير على نهج المحفز للثورة العقلية في الوعي الجمعي للمصريين ليتغيروا نحو الفعل الإيجابي في احترامهم القانون الذي كان قد بدأ يفقد أثره الإيجابي بسريان قانون الفوضى وما يرتبط به من إفساد لسلوكيات المجتمع والانحدار به.
ثورة ثقافية

فهل مجتمعاتنا بصدد ثورة ثقافية جديدة تغير السلوك وتنقلها من واقع السلبية إلى واقع الإيجابية؟ فهذا ليس بجديد على مصر التي لم تكن تمر فيها مثل هذه الأحداث مرور الكرام من دون أن تترك تأثيراتها في الوعي الجمعي للمصريين. فمثلاً نهضة مصر الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين لا يمكن فصلها عن حدثين ثوريين مهمين متمثلين في ثورة أحمد عرابي 1881 التي أوجدت بتداعياتها المختلفة حالة من الوعي الوطني في عقلية النخبة التي استطاعت أن تبرزه في شكل حضاري ومدني بمساعدة عوامل أخرى كثيرة كالتعليم وانتشار الصحافة إلخ... ثم كان مجيء ثورة 19 والتي كانت حدثاً ثقافياً قبل أن تكون حدثاً سياسياً في قدرتها على الانتقال بمصر من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث بوجود دستور ليبرالي وبرلمان وممثلين عن الشعب في شكل أحزاب سياسية تقف في مواجهة الملك، ثم الانتقال بتأثير هذه الثورة إلى مجال الفنون والأدب والموسيقى، بحيث شهدنا نهضة حقيقية في المجتمع دشنت عصراً جديداً بثقافة عصرية جــديــدة. بالتــالي فالتاريخ الحديث شهد مثل هذه الأحداث المصحوبة ببعث ثورة ثقـــافية ونهضة مجتمعية. وعلى النهج نفسه تسير ثورة 25 كانون الثاني (يناير) بمراحلها المختلفة التي برز منها أخــيراً مشــهد محاكمة الرئيس السابق مبارك التي ستعيد الاعتبار الى قيمة القانون وعقــلنته في الــوعي الجمــعي للمصريين.
عزمي عاشور
صحيفة الحياة اللندنية 2011