لا الحجاب ولا السفور من صميم نهضة الأمة

يرى المفكر البحريني محمد جابر الانصاري أن مسألة الحجاب والسفور ليست هي المحك ولا في قمة الأولويات بالنسبة لمحنة العرب والمسلمين الراهنة

هذا السجال الصاخب بشأن الحجاب الذي ينشغل به العرب والمسلمون في هذه الآونة، بينما أراضيهم محتلة وحقوقهم مضيعة وبقاؤهم مهدد ومكانتهم في العالم تحضرا واستقلالا أكثر من مقلقة، هل من شأنه أن يقربهم من روح الإسلام وجوهره كرسالة تحرر وسمو وإصلاح، أو أن يخرجهم من بوتقة الضعف الاستراتيجي والحضاري الذي يعانونه حيال قوى العصر وحركة العالم؟

للنفاذ إلى تغيير واقع الأمة، علينا أن نتبين أن مسألة الحجاب والسفور في أشكالها المظهرية والخارجية ليست هي المحك ولا في قمة الأولويات بالنسبة لمحنتنا الراهنة لا من وجهة نظر الإسلام في جوهره ولا من زاوية التقدم في حقيقته.

لعب الحجاب ويلعب دور "الرمز السياسي" للمعارضة والاحتجاج، كما حدث ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر ونظام الشاه في إيران، لكنه خارج نطاق الاحتجاج الرمزي لن يؤدي دور الفاعل النهضوي في أي مجتمع إسلامي. (أما فقهيا فهو مسألة تتعلق جوهرا بمفهوم الاحتشام لا بتفاصيل محددة للزي، ولهذا سيبقى من المسائل الخلافية غير القطعية من حيث شكله المحدد).

ومن المستغرب، بل المستهجن أن نكرر أن الإسلام أعلى من شأن المرأة وصان حقوقها-وهذا حق- بينما المرأة المسلمة في واقعها تعاني الأمرين أمام المحاكم الشرعية في مشكلات الطلاق وتعسر النفقة وتشرد الأبناء.(...)

ما تفسير هذا التناقض الفضائحي في حياة المسلمين؟ ولماذا نفزع لحجاب المرأة ولا نفزع لمعاناتها القاسية وهي واقعة خلف أشنع الحجب إنسانيا وقانونيا ونفسيا؟
(...)
ليست المسألة مسألة سفور أو حجاب-وهو ما ناقشته المجتمعات العربية ومفكروها منذ بداية النهضة- فهذه مظاهر وأشكال خارجية للفضيلة، الفضيلة الحقة التي يمكن أن توجد وراءها أو لا توجد. فبعض النساء في المجتمعات الإسلامية يذهبن اليوم في ظل الحجاب إلى أمكنة ليست فوق الشبهات، فهل سد حجاب هذا البعض منهن الذرائع المراد سدها؟ أم أنه فتحها على مصراعيها؟

بينما سفور المرأة مع التزامها بالحشمة يبرز شخصيتها ويضعها في دائرة المسؤولية كإنسان يمكن التحقق من ملامحه وهويته. ويبقى الحكم في النهاية للقناعة الضميرية للإنسان، رجلا وإمرأة، سواء من منطق التكلف الالهي أو المسؤولية البشرية، أما الباقي فمظاهر وأشكال.
(...)

ولو أن رسالة الإسلام قامت على المظهر أو الشكل وحده، ولم تنفذ إلى صميم الروح والجوهر قبل كل شيء، لما تجاوزت حدود جزيرة العرب؟ (...) ثمة حرص قرآني أو نبوي متواتر على ضرورة تجاوز المظهر إلى الجوهر حتى في العبادات كما في الأخلاق والسلوك (...)

وفي زمننا الصعب هذا علينا كمسلمين أن نوازن بين جدل الحلال والحرام وجدل التقدم والتخلف. وقد قلنا مرارا وما زلنا نقول: إن التخلف الحضاري في هذا العصر هو "الحرام" بعينه، بل أشد أنواع الحرام لأنه يتهدد الوجود الإسلامي في الصميم. وعندما ينعتق المسلمون من خطره الماحق، يمكنهم أن ينظموا مختلف أوجه حياتهم حسب قناعاتهم الإسلامية، أما إذا ضاع وجودهم كمسلمين، فما جدوى مختلف المظاهر؟

تنشغل مجتمعات إسلامية في جدل الاختلاط بين الطلاب والطالبات من عدمه في جامعاتها. وتضيع في هذا الجدل حقيقة المستوى العلمي والتعليمي الذي انشئت من أجله الجامعة. لا أحد يتساءل أين وصل المستوى العلمي للجامعة بل يتصايح الجميع: اختلاط أو لا اختلاط. بعد أن نحقق الاختلاط أو الفصل في جامعة هزيلة لتفريخ حملة الشهادات "وننتصر" في مناظرتنا، فأي قوة تؤمل للإسلام مع هذا الانحطاط العلمي والتدني الجامعي اختلط أهله أم لم يختلطوا؟
(...)
مما لا شك فيه أن منع المرأة المسلمة من وضع الحجاب في دولة ديموقراطية ليبرالية يمثل-بصفة مجردة ومطلقة-مخالفة لمبدأ حرية الضمير للكائن الإنساني، فذلك ما ينبغي أن يترك لقناعته الضميرية. لكننا نخطئ اذا تصورنا أن النظم الديموقراطية الليبرالية نظم محايدة لا انحيازات قيمية لديها، فهي كأي نظم سياسية واجتماعية في واقع العالم تعكس مصالح ورؤى القوى التي تشكلها خصوصا في ما يتعلق بعقيدتها العلمانية التي قاتلت من اجلها. واذا كانت الحرية من مبادئها فإن مبدأ السيادة الوطنية لا يقل اهمية لديها، وذلك ما نتمسك به نحن أيضا فلماذا ننكره عليها؟

إن هذه النظم على ليبراليتها وتسامحها النسبي لا يمكن أن تتسامح إلا مع من يقبل قواعد اللعبة في النظام الديموقراطي العلماني ويسلم بأصولها. فهذه النظم عبر صراعها المصيري مع خصومها التاريخيين من اقطاعيين وكنسيين وفاشيين وشيوعيين، لم تسمح لأية قوة منهم بالخروج على أصول لعبتها، وإذا قبلت بهم، فبعد تهميشهم وإخضاعهم لمنطقها السياسي.

وهي تشعر اليوم في العديد من بلدانها أن الإسلام شيء مختلف عنها وقد استيقظت غريزة الخوف لديها في الآونة الأخيرة. فحيث "تسامحت" قبل سنوات مع دعاة إسلاميين مقيمين على أراضيها ينادون في سذاجة ومن دون تبصر بخلافة إسلامية في لندن أو باريس، فإنها اليوم لم تعد تتقبل طالبات "مواطنات" في معاهدها بحجاب إسلامي، وعلينا أن لا نستغرب تنكرا أكبر لممارسة الحرية، فكل شيء "نسبي" في الفلسفة الليبرالية، حتى الحرية ذاتها، ومن الإنصاف القول إن هذه النسبية القيمية والمصلحية هي أساس التعامل الواقعي بين أمم العالم كافة ماضيا وحاضرا تحت مختلف الإيديولوجيات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومع الحفاظ على مبادئنا المطلقة، فلنعرف قواعد هذه اللعبة "النسبية" إذا أراد بعضنا التعامل معها.
(...)

نشر المقال في صحيفة الحياة بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 2004
نشر المقال بالاتفاق مع الكاتب محمد جابر الأنصاري

محمد جابر الأنصاري كاتب ومفكر بحريني والمستشار الثقافي لدى ملك البحرين