المستقبل مرهون بحدوث انفراجات ديمقراطية حقيقية!

حركات معارضة جديدة مثل كفاية المصرية وكفى الفلسطينية وارحلوا اليمنية وغيرها شديدة الشبه بالحالة الأوروبية الاحتجاجية في أخريات القرن الماضي، على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أنماط نظم الحكم ومستويات النمو المجتمعي. تحليل عمرو حمزاوي

شهد عدد من مجتمعات أوروبا الغربية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، ظهور حركات اجتماعية معارضة، تخطت الإطارات التقليدية لليمين (الأحزاب المحافظة والمسيحية الديمقراطية) واليسار (الأحزاب اليسارية والاشتراكية الديمقراطية)، وقواعدها الاجتماعية (أصحاب العمل والعمال)، وساهمت في تجديد الخطاب السياسي في ديمقراطيات استقرت مؤسساتها ونظمها القيمية بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال التركيز على قضايا السلام العالمي والبيئة وحقوق المرأة والأقليات.

وكان لافتاً للنظر أن حركات مثل مجموعات الخضر وأنصار البيئة والجماعات النسوية، رفضت في مراحلها الأولى الانخراط في العمل الحزبي، وكثفت نشاطها في مساحة المجتمع المدني الوسيطة بين الدولة والمواطن مبتكرةً في هذا السياق لأشكال احتجاجية سلمية من شاكلة الاعتصامات الدورية أمام معسكرات الجيوش ومحطات توليد الطاقة النووية، ومسيرات ما أصبح يعرف بيوم السلام العالمي وغيرها.

إلا أن محورية المجال السياسي التقليدي ببرلماناته وأحزابه في عملية صنع القرار العام، دفعت بهذه الحركات الجديدة في مرحلة ثانية، إما إلى تكوين أحزاب تنافس الآخرين على أصوات الناخبين، لتصير جزءا فعالا من المعارضة البرلمانية، بل وتشارك أحياناً في الائتلافات الحاكمة، كما في حالات أحزاب الخضر في ألمانيا وبعض الدول الاسكندنافية، أو للانضمام إلى الأحزاب السياسية المستقرة، خاصة اليسارية، بعد أن استوعبت الأخيرة قضاياها وانفتحت عليها.

ورتب كلا النمطين تعميق الممارسة الديمقراطية وتوسيع مساحات التعددية في مجتمعات كانت قد بدأت تشكو من عجز السياسة وترهلها.

تجاوز الجمود السياسي العربي

والحقيقة أن جزءا مما يحدث اليوم في عدد من بلدان عالمنا العربي، التي تكونت بها حركات معارضة جديدة مثل كفاية المصرية وكفى الفلسطينية وارحلوا اليمنية وغيرها، إنما هو شديد الشبه بالحالة الأوروبية الاحتجاجية في أخريات القرن الماضي، على الرغم من الاختلافات الجوهرية بين أنماط نظم الحكم ومستويات النمو المجتمعي هنا وهناك.

فتأسيس كفاية وأقرانها يعبر أيضاً بجلاء عن محاولة واعية لتخطي حواجز الحياة السياسية العربية وجمودها، الذي فرضته نخب سلطوية وأحزاب معارضة همشها غياب حرية الحركة واستسلامها التدريجي لوضعية الكيانات الورقية المبتعدة عن القواعد الشعبية.

ومع أن الشق الأكبر من خطاب حركات "ارحمونا" العربية، يقتصر على رفض سياسات النظم الحاكمة والمطالبة العامة بالتحول الديمقراطي، من دون تطوير رؤى محددة لكيفية إنجازه، إلا أنها أبدعت في الأشهر القليلة الماضية في ابتكار أساليب مستحدثة، للوصول للمواطن العازف عن المشاركة والاهتمام بالشأن العام، وفي توظيف حالة الاستياء الشعبي لبلورة روح معارضة تعيد اكتشاف السياسة، وتذكر النخب يومياً بأن هناك من يتابع أفعالها في الداخل العربي وليس فقط خارجه.

القناعة بضرورة التحول الديموقراطي

ومثلما سعت الحركات الاجتماعية الأوروبية إلى إعادة صياغة التوافق الديمقراطي، القائم بالفعل ليشمل قضايا المرأة والبيئة وحقوق الأقليات، تهدف نظيراتها في مجتمعاتنا إلى صياغة توافق إصلاحي حول المرتكزات القيمية للحياة الديمقراطية من حرية وشفافية وتداول للسلطة، وإجراءات ممارستها من خلال انتخابات نزيهة ودورية ورقابة متبادلة بين مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

بل إن هناك أوجها أخيرا للتماثل بيننا وبينهم، وهو حقيقة أن أحزاب الخضر والجماعات النسوية في أوروبا ضمت في صفوفها سياسيين ومثقفين من اليمين واليسار، جمعهم الإيمان بأهمية القضايا الجديدة، تماماً كما تتسع عضوية الحركات العربية لتشمل علمانيين وإسلاميين، ليبراليين ويساريين وقوميين توحدهم ـ على الأقل جزئياً ـ القناعة بحتمية التحول الديمقراطي، متعديةً بذلك لثنائيات فاصلة حالت طوال العقود الماضية، من دون ظهور أجندة وطنية خارج السياقات الرسمية.

لكن عند هنا، تنتهي مساحة التماثل، وتبدأ أوجه متعددة للاختلاف في البروز على نحو يمكن حصره في ثلاثة مستويات رئيسية. ففي حين استندت الحركات الأوروبية بالأساس إلى شرائح الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية والريفية وإلى اتحادات الكتاب والمثقفين والفنانين، فضلاً عن مجموعات يسارية متنوعة لم تتمكن الأحزاب التقليدية من استيعابها، يشكل المثقفون ونشطاء المجتمع المدني فقط، عماد المعارضة الجديدة في العالم العربي.

غياب القواعد الشعبية لحركات الإصلاح

وبينما ساعد حضور الطبقة الوسطى في أوروبا على تمكين الخضر وغيرهم من إيجاد ضغط شعبي ازدادت معدلاته باستمرار على نحو حتم ادماجهم في الحياة السياسية إن كأحزاب أو كقضايا، يرتب عزوف الفئات الوسيطة في مجتمعاتنا حتى الآن عن المشاركة في فعاليات المعارضة غياب القواعد الشعبية للحركات العربية ويفسر جزئياً ـ خاصةً في الحالة المصرية ـ اهتمامها الشديد بالانفتاح على التنظيمات الإسلامية المعتدلة ذات الرصيد الجماهيري الواسع.

تتفاوت من جهة ثانية إمكانات الفعل السياسي في الإطارين تفاوتاً جذرياً، يرتبط بالفوارق النوعية بين ديمقراطيات مستقرة هناك ونظم حكم سلطوية أو تعددية مقيدة في أفضل الظروف هنا.

ولا شك أن التضييق المستمر من جانب الحكومات العربية على معارضيها، بل والملاحقة الأمنية لهم على الرغم من الطابع السلمي لفعاليتهم (مسيرة شموع سوداء صامتة للاعتراض على انتهاكات مريعة لحقوق الإنسان من جانب الحزب الحاكم ووزارة الداخلية في يوم الاستفتاء على تعديل الدستور المصري)، وإن كان له مردود عاطفي بين الجماهير إلا أنه يحد من قدرتهم على التحرك في الشارع لمخاطبة المواطنين، وإقناعهم بأهمية الضغط الشعبي المنظم من أجل إنجاز التحول الديمقراطي.

عزلة المعارضة هي واحدة من الحقائق البنيوية للنظم السلطوية التي يصعب التغلب عليها في مجتمعات نامية تتدنى بها معدلات التعليم واستخدام تكنولوجيات الاتصال الحديثة، وما زال الخوف من الحاكم وأجهزته القمعية يهيمن على ثقافتها السياسية.

تجديد الخطاب السياسي

على صعيد ثالث تمتعت النخب الأوروبية الحاكمة في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بالخاصية الرئيسية، التي تميز منطق إدارة السياسة وعلاقة الدولة بالمواطن في المجتمعات الديمقراطية، العقلانية.

العقلانية تلك هي التي مكنت أحزاب اليمين واليسار بل وبيروقراطية الدولة ومؤسساتها من إدراك أهمية الأجندة السياسية، التي تعبر عنها الحركات الاجتماعية المعارضة والانفتاح التدريجي والرشيد عليها، بعد مرحلة أولى من الرفض بل والمواجهة الأمنية مع جماعات ضمت بقايا لليسار الراديكالي العنيف، الذي فرض بصمته الدامية على أوروبا، الألوية الحمراء وبادر ـ ماينهوف في النصف الأول من السبعينيات.

بعبارة أخرى سارع استقرار النهج الديمقراطي من تحويل ما بدا تهديداً إلى تجديد في الخطاب حول السياسة وكيفية ممارستها، على نحو مكن المجتمعات الأوروبية من عصرنة المرتكزات القيمية والإجرائية لتوافقها العام.

أما الحالات العربية فهي في الأغلب الأعم على نقيض من ذلك تماماً. فالعقلانية في إدارة علاقة الدولة بالمواطن غائبة عن نخب هدفها البقاء في السلطة، من دون تغيير أو بتعديلات طفيفة لا تطال جوهر الحياة السياسية، وتحدد هي بمفردها جوهرها وأساليب تطبيقها.

تكاد تنعدم إذن إمكانية الانفتاح الجدي على رؤى ومطالب المعارضة الجديدة ـ بل والقديمة أيضاً من أحزاب واتحادات مهنية ـ بصورة تحرمها من مجالات التأثير على عملية صنع القرار العام، ومن فرص التطور ربما لتشكيل أحزاب سياسية على غرار التجربة الأوروبية.

يظل مستقبل حركات كفاية وكفى وارحلوا مرهون بحدوث انفراجات ديمقراطية حقيقية في عالمنا، تمكنهم من التواصل مع قواعد شعبية تهتم بالشأن المجتمعي، ومن التفاعل مع نخب حاكمة رشيدة ،تضع المصلحة الوطنية نصب أعينها، وتدرك أن تعريف الأخيرة، إنما هو قضية توافقية بالأساس. ولكن المعضلة هي من أين لهذه الانفراجات أن تأتي؟

بقلم عمرو حمزاوي
صدر المقال في صحيفة الشرق الأوسط
حقوق الطيع عمرو حمزاوي

عمرو حمزاوي باحث مصري بمؤسسة كارنيغي للسلام في واشنطن

قنطرة

"الديمقراطية العربية المنتظرة لم تولد بعد
المفكر برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون في باريس، يتحدث لقنطرة عن الإصلاحات السياسية، والتطورات الديمقراطية في العالم العربي،ومستقبل الإصلاحات والديمقراطية في سوريا.