نظام صارم ووئام عقائدي

يشكل الماليزيون والعرب 15 بالمائة من مجمل سكان سنغافورة. برفق وأحيانا بقبضة حديدية تسعى سلطات الدولة الصغيرة إلى تحقيق الوئام بين مختلف الطوائف العقائدية. تقرير مانفريد ريست.

عندما يُسأل صاحب المطعم الفاخر "سمر" عن سبب وجود صور لإرهابيين من أمثال الشيخ أحمد ياسين معلقة على جدران مطعمه يجيب فقط بابتسامة، ويلفت النظر إلى الديكور على الحائط والعدد الكبير من النرجيلات وصورتي الرئيسين عرفات وعبد الناصر.

ثم إن نظرة على لائحة المأكولات حيث تتواجد بعض الوجبات الغربية بالإضافة إلى العديد من المأكولات اليمنية، ستقطع آخر شك حول التوجهات السياسية السائدة في شارع بغداد بسنغافورة: "فلسطين الحرة" يقرأ المرء هناك وبأحرف كبيرة لا يمكن أن تخطئها العين.

ماليزيون وعرب

هذا المطعم، في قلب الحي العربي، لن يجلب الانتباه بصفة خاصة في بقية مدن المنطقة. لكن في سنغافورة حيث حرية التعبير محدودة، والعلاقات بين المجموعات العرقية والدينية خاضعة إلى مراقبة خاصة من طرف الحكومة، فإن "سمر" مثير للانتباه حقا. وقد تلقى صاحبه الذي يمتهن المحاماة العديد من زيارات موظفين حكوميين فضوليين.

إن الحي الإسلامي الممتد على طول شارع العرب الذي عرف خلال القرن التاسع عشر استيطان التجار القادمين من "آسيا الغربية" يعد حالة استثنائية في سنغافورة. فليست المراكر التجارية الكبرى هي التي تطغى على المشهد هنا، بل دكاكين تجارية في بنايات من طابقين فقط وجامع السلطان.

أما الماليزيون والعرب الذين لا يمثلون سوى 15 بالمائة من مجمل سكان سنغافورة فإنهم في وضع الأقلية دون شك. وهنا تسود بصفة واضحة للعيان تلك الأجواء التي كانت سائدة في سنغافورة القديمة عندما كانت البلاد تابعة لماليزيا وفي عداد بلدان العالم الثالث.

كما أن المواصفات التي سعت سنغافورة إلى تثبيتها استجابة لما تعتبره من مقتضيات التحديث، والتي تتمثل في إعداد شعب متفان ومطيع، وما انجرعن ذلك بالنهاية من خلق مواطنين غير مسيّسين؛ كل هذه المواصفات لا يكاد المرء يلمس لها أثرا في هذا الحي.

اختلافات مع البلدان لمجاورة

لكن هناك أوجه اختلاف كثيرة مع أندونيسيا وماليزيا المجاورتين حيث يمثل المسلمون أغلبية السكان، وحيث لم تمض الدولة بالدفع بعملية تأسيس العلمانية بصفة جذرية. مفخم الصوت الذي يصدح بالآذان في الجامع مخفّض هنا بدافع الحرص على احترام المواطنين من ذوي المعتقدات الأخرى.

أما الحجاب الذي غدا ظاهرة عادية في مدينة كوالا لمبور الماليزية، والذي يؤجج الخلافات في عدة أماكن أخرى، فإنه لا يُلمح في شوارع سنغافورة إلا بصفة عرضية نادرة. كما أن اللغة الإنكليزية التي تعد من المصادفات النادرة في بقية بلدان جنوب شرق آسيا، فهي هنا، وإن كانت مشوبة بلكنة محلية واضحة، لغة متداولة في كل مكان.

إن الجهود التي تبذلها سنغافورة من أجل تكوين أمة وتأسيس هوية وطنية ما زالت، وبعد 40 سنة من تأسيس الدولة المستقلة، تعطي انطباعا بشيء من التسرع والاضطراب أحيانا، بل وحتى شيء من التكلف والتعصب القومي أيضا.

وكما لا يرى المرء في أي بلد آخر تُبذل أقصى الجهود في هذا الإطار من أجل إرساء علاقات وئام وانسجام بين مختلف المجموعات العقائدية والإثنية التي يتكون منها الشعب.

ولئن كانت أجهزة الحكومة والقيادة العسكرية والنشاطات التجارية للبلاد تحت سيطرة واضحة للعنصر الصيني، فإن هناك وعيا منذ الاضطرابات العرقية لشهر أيار/مايو 1964 على الأقل بأن مثل هذه الخلافات تمثل خطرا يتهدد وجود البلاد، ولذلك كان لزاما على الأغلبية أن تعامل الأقليتين الماليزية والهندية بما يضمن إرضائهما.

لا تسامح مع العنصرية

أما عن كون الحكومة لا تتردد أمام أي عمل من أعمال الشغب، وأنها تتدخل بسرعة لدى ظهور العلامات الأولى للعنصرية في المجال العمومي، فذلك ما اتضح في الفترة الأخيرة. رسالة من قارئة تعيب فيها على أصحاب سيارات الأجرة أنهم ينقلون كلابا في المقاعد الخلفية لسياراتهم أثارت حفيظة صينييّْن من محبي الكلاب.

تعليقاتها التي نشرت في منبر للحوار على أعمدة صفحة إلكترونية كانت، حسب تقديرات مدعي النيابة العامة، مما يمكن أن يشحذ الأحقاد بين مختلف المجموعات العرقية في البلاد، مما أدى بالتالي إلى تقديم دعوى ضدهما بتهمة إثارة البلبلة. وذلك ما سيجعلها، بحكم وقوعها تحت طائلة القانون الخاص بأعمال التمرد لسنة 1948 الذي يستدعى لأول مرة في هذه القضية، مهددة بعقوبة بالسجن لمدة قد تبلغ ثلاث سنوات.

إن مسألة الحفاظ على التوازن بين مختلف المجموعات العقائدية والإثنية أمر على غاية من الصعوبة في بعض الأحيان. وهو ما يتضح من خلال مثالين إضافيين من صميم واقع الحياة اليومية في المدينة.

فلقد سمحت الحكومة الجديدة مؤخرا، وخلافا لتقليد قديم كان قد سار على منواله مؤسس الدولة لي كوان يو، ببناء إثنين من الكازينوهات. وقد انطلقت الحكومة في قرارها هذا من تبجيل اعتبارات اقتصادية لها علاقة بالمكانة التي تبتغي أن تحتلها البلاد على الساحة العالمية.

إلا أن هذا القرار قد أثار احتجاج المجلس الإسلامي لسنغافورة، وهو السلطة الإسلامية العليا بالبلاد. وكان على يعقوب إبراهيم الوزير المكلف بالشؤون الدينية أن يتدخل بخطاب بالغ الدقة والحذر شبيه رقصة بلاغية بهلوانية ليدعو إخوانه في المعتقد إلى ضرورة التفرقة بين مجالات الأخلاق العمومية والفردية.

موقف صارم

مسألة أخرى كانت مناسبة لقيام جدالات في البلاد ألا وهي منع الحجاب في المدارس الابتدائية. ذلك الجدل قد أثاره أب لطفلتين كان مصرا على أن لا تتخلى بنتاه على إرتداء الحجاب في المدرسة. وبينما تمتاز الحالة في هذا الإطار بتعامل أكثر تفتحا داخل المؤسسات التعليمية في كل من ماليزيا وأندونيسيا، فإن القانون في مدينة سنغافورة واضح:

على العائلات التي تريد التمسك بالأعراف الإسلامية أن تبعث بأطفالها إلى المدارس الإسلامية المحلية. أما من يريد التمتع بحق التعليم في المدارس الحكومية فعليه أن يتخلى، حتى بلوغ المرحلة الإعدادية عن ارتداء ملابس من شأنها أن تعبر عن حواجز دينية أو تعمقها. كما أن الزي المدرسي الموحد يظل ضروريا حتى نهاية الثانوية.

إلا أن التحدي الأكبر الذي يواجهه التعايش العقائدي والعرقي المنسجم في سنغافورة يتمثل بصفة رئيسية في الخطر الإرهابي عن طريق الإسلاميين المتطرفين. وكحليف عملي للولايات المتحدة يتعين على سنغافورة التي يعيش فيها أقلية كبيرة من المسلمين أن تنخرط بحزم في مكافحة الإرهاب، لكن مع الحرص على أن لا تجرح مشاعر مواطينها ذوي الأصل الماليزي.

وفي الوقت الذي تمسك فيه الدولة بعنان القيادات الدينية المحلية ودفعها إلى مزيد من الدعاية لإسلام بلاعنف، تمضي الأجهزة الأمنية في حملتها المتشددة ضد كل الخلايا الإرهابية المحتملة.

وتستند هذه الأجهزة في عملها على قانون الطوارئ الذي يعود إلى العهد الاستعماري. وفي إطار ما يسمى بالـInternal Security Act (قانون الأمن الداخلي) يمكن للمشتبه فيهم أن يقضوا سنوات عديدة في الإيقاف دون محاكمة.

بقلم مانفريد ريست
ترجمة علي مصباح
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005
صدر المقال في صحيفة نويه تسوريشر تسايتونغ

مانفريد ريست مراسل صحيفة نويه تسوريشر تسايتونغ السويسرية.

قنطرة

تآلف المتناقضات المذهبية في إندونيسيا
رغم أن الغالبية الساحقة من سكان أندونيسيا يعتنقون الإسلام، إلا أن الممارسات الدينية في مختلف أرجاء البلاد خليط معتقدات إسلامية، هندوسية، بوذية وعادات وطقوس قديمة.

قادمة من الشاطئ الآخر
تتناول الصحفية الألمانية شارلوته فيديمان تجربتها في التعايش الذي شهدته في ماليزيا وتنتقد بشدة الخطاب الألماني حول الإسلام والمسلمين