كفاح من أجل الحقيقة والسياق التاريخي السليم

حتى بعد انقضاء 90 عاما على المذابح، ما زال لمسألة العلاقة بين جمهورية تركيا الفتية والأرمن وقع تلاطم الأمواج الهائجة. إلا أن هناك اهتماما متزايدا بأبحاث المؤرخين الساعين إلى دراسة هذه القضية في سياقها التاريخي الحقيقي.تقرير يورغين غوتشليش.

هل وقعت بالفعل إبادة جماعية؟ يشكو المسؤولون الأتراك في ألمانيا من أن هناك سؤالا وحيدا يطرح عليهم في معرض التطرق إلى الأرمن وهو "هل وقعت بالفعل إبادة جماعية؟" فيقول الناطق باسم السفارة التركية نجم الدين ألتونتاس:

"عندما يأتي الرد سلبا، يكف السائلون عن توجيه أسئلة أخرى. إن هذا الجواب يكفيهم للاستنتاج بأن الجهة المعنية تنفي واقعة الإبادة الجماعية وترتكب بالتالي عملا مشينا".

في واقع الأمر تعاني الجهات الرسمية التركية من العزلة في العالم كله تقريبا بسبب إصرارها العنيد على القول إن شيئا من هذا النمط لم يقع في الفترة بين 1915 و1917 وإن الأمر يقتصر على وجود قتلى وهو واقع نجم عن اندلاع الحرب لا أكثر ولا أقل.

في واقع الأمر أيضا لم يعد أحد تقريبا خارج تركيا يعبأ بنظرية التشكيك بوقوع الإبادة الجماعية حتى لو طرحها أفراد يتسمون بالنزاهة والإنصاف. ولم يعد أحد تقريبا خارج تركيا يتفهم أيضا أسباب إصرار الحكومة التركية الحالية على التمسك الشديد بهذا الموقف كحال كافة الحكومات التركية الأخرى التي سبقتها في الحكم.

السياق التاريخي للإبادة الجماعية

المرء الذي يسعى إلى فهم هذا الموقف بإمكانه قراءة الطبعة الجديدة لكتاب ما زال مثيرا للاهتمام وهاما في هذا الصدد وهو "أرمينيا والإبادة الجماعية- محاكمات اسطنبول والحركة القومية التركية" الذي ألفه تانير أكجم.

تانير أكجم هو من قلة المؤرخين الأتراك الذين وصفوا أحداث التشريد والمذابح التي وقع جانب كبير من السكان الأرمن الخاضعين حينذاك للحكم العثماني ضحية لها بالإبادة الجماعية.

يعيش ويعمل أكجم خارج تركيا فقد جاء في مطلع الثمانينيات إلى ألمانيا كلاجىء سياسي ودرس في معهد ريمتسما في هامبورغ وهو يدرّس حاليا في إحدى جامعات الولايات المتحدة.

تحذير من استخلاص سريع للنتائج

هذا يعني أن طرح تانير أكجم لا يعكس نهج مناقشة هذا الملف داخل تركيا.على الرغم من ذلك فقد حاول على عكس حال معظم المؤرخين الأرمن توضيح العوامل التي جعلت وقوع الإبادة الجماعية ممكنا. من ضمن ذلك، وهو ما عرضه أكجم، الأحداث التي وقعت في الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وأسباب القيام بالإبادة الجماعية ضمن السياق التاريخي.

يكمن الفرق الرئيسي في هذا الصدد بين رؤى أرمينيا وأوروبا الغربية والولايات المتحدة من جانب وبين تركيا من جانب آخر في الاختلاف في كيفية عرض وتفسير الأحداث التاريخية المعنية وفيما يختص بتقدير وزنها. لهذا فإن تانير أكجم يحذر قراء كتابه من استخلاص سريع للنتائج. كما أنه يطالب زملاءه الأرمن بإبداء الاستعداد لمناقشة النزاع القائم حول "أكذوبة الإبادة الجماعية" على نحو جدي.

استنتج أكجم في مقدمة كتابه "بعدم إمكانية معالجة هذا الموضوع على نفس منوال التعامل مع الجرائم النازية وإنكار وقوع المحرقة في معتقل أوشفيتس النازي حيث تم توضيح هذين الأمرين على نحو لا يقبل التأويل من قبل علماء التاريخ وخبراء القانون. أما في حالة المسألة التركية الأرمنية فما زال مثل هذا الوضوح بعيد المنال إلى حد كبير".

يتألف الكتاب من جزئين اثنين. فهو يتناول في الجزء الأول الخلفية التاريخية للإبادة الجماعية وظهور الحركة القومية المسماة تركيا الفتاة كردة فعل على ظهور حركات إثنية للشعوب الأخرى التي كانت خاضعة للحكم العثماني المتعدد القومية.

وهو يصف هناك الأسباب التي جعلت قيادة حركة تركيا الفتاة ترى في الأرمن عقبة أمام خطة تأسيس جمهورية تركية مما حداهم إلى اعتبار قتل السكان الأرمن وتشريدهم من الأقاليم الشرقية للأناضول حلا للمشكلة الأرمنية.

محاكمات مجرمي الحرب في اسطنبول

يشير تانير أكجم في الجزء الثاني إلى فصل يكاد أن يكون منسيا في سياق التعامل مع موضوع تحمل المسؤولية، حيث أنه يبحث في محاكمات مجرمي الحرب التي جرت بعد هزيمة العثمانيين وتحديدا في الفترة من 1919 إلى 1921 في اسطنبول.

ومع أن قوات الاحتلال التي انتصرت على تركيا كان لها تأثير كبير مما أمكن محاكمة المسؤولين عن المذابح التي وقع الأرمن ضحية لها، إلا أن المحكمة نفسها كانت محكمة عسكرية تركية قام السلطان بإنشائها.

وقد انبثق الموقف التركي الراهن حيال المأساة الأرمنية من تاريخ هذه المحاكمات التي تضمنت أحكاما بالإعدام تم تنفيذ ثلاثة منها وموازاة لذلك من حركة الاستقلال التركية التي ازدادت قوة على نحو مستديم في كفاحها ضد قوى الاحتلال.

دور حركة الاستقلال الأرمنية

من الصعب كثيرا على الجانب التركي أن ينظر إلى الأحداث التي وقعت في ذلك الحين بروح مجردة من الأحكام المسبقة بسبب السياق الزمني القائم بين المحاكمات وبين حرب التحرير التي تشكل أحد الأعمدة الرئيسية للدولة التركية اليوم. وذلك نظرا لأن الحلفاء المنتصرين لعبوا بورقة حركة الاستقلال التركية قبل اندلاع الحرب وبعدها كوسيلة سياسية موجهة ضد الأتراك.

فقد غذى الحلفاء في بادئ الأمر أحاسيس الأمل لدى السلطان والحكومة بكون تركيا ستنال معاهدة سلام لا تكبدها جهودا مضنية في حالة شجبها للمذابح التي وقعت ضد الأرمن.

ولكن عندما أبرم الحلفاء معاهدة سيفري التي لم تنص فقط على انتقال المناطق الأوروبية والعربية التابعة للإمبراطورية العثمانية إلى سيطرة الحلفاء المنتصرين بل كذلك كامل مناطق الأناضول تقريبا التي تشكل صلب الدولة التركية، رأت حركة الاستقلال التركية بأنها محقة في موقفها الرافض.

وكان الكثيرون من الأفراد المسؤولين عن مذابح الأرمن قد انخرطوا في تلك الأثناء في صفوف حركة التحرير.

بعد انتصار تركيا في حرب الاستقلال خمدت رغبتها بصورة أكثر من قبل في الاعتراف بتحملها للذنب حيال المسألة الأرمنية. بل على العكس من ذلك بدت للأتراك المعارك التي دارت حول مناطق الأناضول التي تشكل صلب الدولة التركية الجديدة كما لو أعطت لاحقا مبررا لتشريد الأرمن وتعريضهم للمذابح.

حرب إقليمية بين حركتين قوميتين

لا يعمد تانير أكجم إلى تبرير الموقف التركي بل يؤكد على عكس ذلك بأن رواد حركة تركيا الفتاة خططوا ونفذوا مشروع قتل وتشريد السكان الأرمن من الأناضول. لكنه يوضح أيضا كيفية وقوع ذلك.

فيقول إنه على عكس ما وقع في المحرقة النازية الكبرى ضد اليهود كان قتل الأرمن جزءا من كفاح الحركة القومية التركية التي تنافست مع حركة قومية أخرى حول ذات المنطقة.

هذا العنصر يوليه الأتراك أنفسهم بطبيعة الحال أهمية رئيسية حيث يرددون بأن كل ما قامت به الحكومة التركية المؤلفة في ذلك الحين من القادة الثلاثة طلعت وانور وكمال باشا كان ردة فعل فقط على المقاومة الأرمنية.

ويضيفون بأن الرد وإن فاق ربما حجم المقاومة الأرمنية واتسم بوحشية زادت عن الحد المعقول، إلا أنه كان هناك ما من شأنه إعطاء تبرير جيد له. لكن هذا الإحساس بالثقة الذاتية المتناهية بدأ يتراجع بصورة متزايدة حتى في تركيا نفسها.

احتجاجات قومية

أشهر المنشقين عن الخط السائد هو الأديب اورهان باموك الذي أثار ردود فعل عكسية صاخبة من خلال حديثه في مقابلة أجرتها معه جريدة سويسرية عن مليون قتيل أرمني. فقد احتجت على هذه المقولة بشدة اتحادات قومية، وأكثر من ذلك أمر رئيس إحدى المحافظات بسحب كافة كتبه من المكتبات العامة التابعة للمحافظة ثم عاد يقول بأنه قد تبين عدم وجود ولو حتى كتاب واحد لهذا الأديب هناك.

من ناحية أخرى تقوم "الحرية" (Hürriyet) وهي كبرى الجرائد اليومية حاليا بنشر مسلسل يسمى "ماذا حدث في عام 1915 ؟" يشارك فيه بالإضافة إلى دعاة الموقف الرسمي أشهر الشخصيات المعروفة بنقدها لهذا الموقف.

فقد أوضح هناك الأستاذ خليل بركتاي من جامعة صابانجي المشهورة في لقاء جرى معه الأسباب التي تنفي اعتبار المذابح من قبيل دفاع الإمبراطورية العثمانية عن نفسها وتجعلها تشكل بالتالي عملا مدروسا يهدف إلى تشريد الأرمن وإبادتهم في شرق الأناضول. وهو يستخدم في هذا الصدد تعبير "التطهير العرقي" لا "الإبادة الجماعية".

ظهر هذان التعبيران إلى حيز الوجود واستخدمت تعريفات خاصة بهما بعد حقبة طويلة من قتل الأرمن في الأناضول. وسوف يكون الأمر مأساويا لو أدى الخلاف الدائر مجددا حول صحة أي من هذين التعبيرين إلى تدمير المؤشرات الأولية للتفاهم الذي تم الوصول إليه حيال هذه القضية.

يورغين غوتشليش
حقوق النشر Qantara.de 2005
ترجمة عارف حجاج

قنطرة
تركيا والاتحاد الأوربي
يخيم على النقاش حول القيم الحضارية والإسلام مرارا وتكرارا السؤال ، فيما إذا كانت تركيا تابعة للاتحاد الأوروبي أم لا