مكافحة الرشوة تخدم المصالح الفردية قبل كل شيء!

الرشوة متفشية في مصر في كافة المجالات بحيث لا يسع لأحد أن يتجنبها. وهي جزء متمم للاقتصاد والحياة اليومية. بالتالي فالجميع مشاركون، والكثيرون مستفيدون. هل هناك إذن مصلحة لأي طرف في محاربة الرشوة؟ تقرير فريدريك ريشتر

الشائعات تدور منذ سنوات، بيد أن مصطفى بكري توصل فجأة لمعرفة كل شيء وبدقة متناهية. كشف بكري، مدير تحرير الجريدة الأسبوعية "الأسبوع"، في سلسلة مقالاته وبمنتهى الدقة عن الأموال التي جمعها ابراهيم نافع، رئيس مؤسسة الأهرام الصحفية الحكومية حتى تموز/يوليو من هذا العام.

فقد جمع الأخير مبلغ نصف مليون دولار في العام الواحد، تحت غطاء عمولات ومبيعات الإعلانات، ويقدر البعض الثروة التي جمعها خلال العشرين عاماً التي قضاها في منصبه بما يقارب السبعين مليون دولار.

الرشوة متفشية في مصر، ويمثل إبراهيم نافع أشهر الحالات التي انكشفت في هذا العام. من جهته يقول سعد الدين ابراهيم، عالم الإجتماع المصري-الأمريكي، وأحد أبرز منتقدي الرئيس حسني مبارك:

"في كل أنحاء العالم الثالث تمثل الرشوة وظيفة في الحكم والسلطة من ناحية، لكنها لا تخضع للمحاسبة من ناحية اخرى. وترتفع وتيرتها في مصر إلى حد كبير، لا سيما في ظل رئيس يمتلك سلطة تكاد لا تصدق دون الخضوع لأية محاسبة، إضافة لمنحه أعوانه العاملين في مجالات إدارية معينة، نفس الصلاحيات دون الخضوع لمحاسبات ذات شأن".

استغلال المعلومات

كان إبراهيم نافع بالفعل من المقربين جداً لمبارك ولسان حاله في الصحافة الحكومية في آن معاً. الأمر الذي دعى البنوك الحكومية لغض الطرف عنه. والآن بعد تعثر خطى نافع، يتجلى من خلال قضيته بعضٌ من أسباب إخفاق محاربة الرشوة.

أحد المطلعين على خبايا الأمور في جريدة الأهرام يعتقد بأن صفوت الشريف، الشخصية السياسية المهمة في الحزب الوطني الحاكم، وأحد الشخصيات المقربة من مبارك منذ عهد طويل، هو من زوّد مصطفى بكري بالمعلومات والوثائق.

كان صفوت الشريف حتى عام 2004 وزيراً للإعلام، حيث قضى مدة زمنية مماثلة لمدة إبراهيم نافع في منصبه وكانت له من تلك الفترة حسابات لم يتم تصفيتها بعد. هكذا تنكشف معظم حالات الرشوة في مصر: متنازعون على الثروة والسلطة يستغلون معرفتهم بإنزلاقات خصومهم.

الدخول من الباب الخلفي

من جهة أخرى انتشرت المقالات في أواسط الحملة الانتخابية للرئاسة في أيلول/سبتمبر. وفي وقت كان أيمن نور رئيس حزب الغد ومرشحو المعارضة الآخرون يهاجمون فيه الحكومة مراراً وتكراراً ويجلدونها بسياط الفساد والرشوة، لكن الرئيس مبارك تجاهلهم في حملته الانتخابية.

فكانت فضيحة إبراهيم نافع فرصة لإقحام الموضوع على الانتخابات من الباب الخلفي دون الاضطرار للحديث عنها.

بهذا تخدم مكافحة الرشوة في مصر المصالح الفردية قبل كل شيء. ثمة ديوان محاسبة، لكنه ليس مستقلاً. يذكر سعد الدين ابراهيم أن:

"ديوان المحاسبة قد كشف العديد من حالات الرشوة الكبيرة، لكنه يحتاج دائماً إلى ضوء أخضر من الرئيس شخصياً. ويتبين بعد كل حالة بأن الطبقة الحاكمة على دراية بها منذ زمن طويل، إلا أن وقت كشف النقاب عنها تحدده الدوافع السياسية في كل مرة".

تعم الرشوة في مصر في كافة المجالات بحيث لا يسع أي من رجال الأعمال، أو لموظف حكومي أو لمواطن أن يتجنبها. الرشوة جزء متمم للاقتصاد والحياة اليومية. بالتالي فالجميع مشاركون، والكثيرون مستفيدون.

هل هناك في الواقع مصلحة لأي طرف في محاربة الرشوة؟ سعد الدين ابراهيم يعترض على هذا الطرح بقوله: "لا يمتلك كلٌّ سلطةً يمكنه إساءة استخدامها، وإضافة لذلك، هناك نضال أناس ذات شهرة وقادة سياسيون يناهضون الفساد والرشوة".

توثيق فضائح الرشوة

مكتب أحد الشخصيات الأقل شهرة يقع في عمق أبراج مؤسسة الأهرام لا ينفذ ضوء النهار إليه. تتراكم الصحف والكتب على طاولته ما يجعلها تبدو كالحصن. إنه مكتب أحمد السيد النجار، مدير تحرير التقرير الاقتصادي الاستراتيجي السنوي للدراسات السياسية الإستراتيجية للأهرام.

وثّق النجار، في العدد الأول من التقرير لعام 2000، فضائح الرشوة أثناء خصخصة إقتصاد الدولة المصرية في التسعينيات. حيث تم بيع مؤسسات حكومية بثمن يقل عن ثمن الأرض التي بنيت عليها. وفي مطلع عام 2004 كتب النجار عن العمولات التي يتقاضاها إبراهيم نافع، فمنع بعدها من الكتابة في صحيفة المؤسسة اليومية.

يعلق النجار فيما يتعلق بالاتهامات الموجهة لنافع: "ليس في حوزتي وثائق، لذلك لا يسعني أن أقول شيئاً في هذا الصدد". وهو يعوِّل الآن على الشفافية والوثائق ويريد انتظار نتائج التحقيقات القانونية.

وجدير بالذكر أن الأهرام لم تقدم أي موازنة مالية أثناء السنوات العشرين التي زاول فيها نافع وظيفته. بينما تشكل المؤسسة الصحفية تجمعا هجينا يضم حوالي ثلاثين شركة، كما يُزعَم. من بين هذه الشركات تلك التي تنتج المواد المكتبية القرطاسية، وأخرى تنتج الأدوية، ويقال أن ثمة مكتب للسياحة من بينها.

بالرغم من ذلك فإن ديون مؤسسة الأهرام بلغت 570 مليون يورو، وتصل ديون مؤسستي الصحافة الحكوميتين الكبيرتين الأخريتين الأخبار والجمهورية مع بعضهما البعض أيضاً ذات القدر. لذا دعى رئيس الوزراء أحمد نظيف في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر رؤساء المؤسسات الثلاثة الجدد إلى جلسة طوارئ.

مصر في القياس الدولي

تحقق مصر على قائمة منظمة الشفافية الدوليةTransparency International 3.4 من أصل 10 نقاط، لتحصل بذلك على ترتيب السبعين بين الدول. ولا يوجد حتى اليوم في مصر فرع رسمي لمنظمة الشفافية الدولية، بل مجرد شبكة تتشكل من أشخاص ومجموعات تشعر بالالتزام بعمل المنظمة.

وحاول حلمي أبو العيش، المدير السابق لشركة SEKEM ، قبل عامين جمع 12 منظمة مع بعضهم البعض، إلا أنه كف عن هذه المحاولة بعد ستة أشهر. ويعزي أبو العيش السبب لاستغلال مكافحة الفساد والرشوة من قبل المجموعات لصالح أجندتها السياسية ولمصالحها الفردية.

ثمة حملة جديدة أخرى اليوم. إذ يريد حسام بدراوي، رجل الأعمال المعروف المنتمي للتيار الإصلاحي في الحزب الوطني الحاكم، أن يشكل فرعا رسميا لمنظمة الشفافية الدولية في مصر خلال الأسابيع القادمة.

و يقر بدراوي بأن مكافحة الرشوة في مصر غالباً ما تخدم مصالح فردية، لذلك يريد دعوة ممثلين عن أحزاب المعارضة. فـ"المبدأ ينص على إشراك أفراد من اتجاهات ومجموعات عديدة ومتنوعة، وليس فقط من منظمة واحدة".

بيد أن أحمد صقر عاشور، أستاذ مادة الإدارة في جامعة الإسكندرية في ريبة من هذا. ويبرز إسمه على الصفحة الرئيسية في موقع الانترنت التابع لمنظمة الشفافية الدولية بإعتباره ممثلها في مصر. ويخشى عاشور من أن تكون الحكومة بصدد وضع يدها على مكافحة الرشوة من خلال تنصيبها لحسام بدراوي، بهدف منع المجموعات المستقلة من مراقبة الوضع عن كثب.

ويضيف عاشور أنه: "من الصعب جداً، التمييز بين أولئك الذين لهم مصلحة صادقة في مكافحة الرشوة وأولئك الذين يريدون استغلالها لأغراضهم السياسية الذاتية". ويأمل عاشور أن لا يتقدم حسام بدراوي أكثر من حلمي أبو العيش لأن من شأن ذلك أن يعود بالضرر على حركة الإصلاح.

مصالح حكومية

يعتبر أبو العيش وبدراوي بالفعل من المقربين للحكومة. ويتداول اسماهما عند الحديث عن الترشيحات للمناصب الوزارية. ويشغل أبو العيش منذ عهد قريب وظيفة المدير التنفيذي لمجلس تحديث الصناعة المموَّل من الاتحاد الأوروبي والوثيق التعامل مع وزارة الصناعة.

ويلاحظ هنا وجود مؤشرات لدى الحكومة أيضا، ترفع من شأن مكافحة الرشوة، فأثناء مؤتمراقتصادي عقد في تشرين الأول/اكتوبر الماضي، جلس خمسة وزراء على المنصة، وأخذوا يقصون علانية لبعضهم البعض عن حالات فساد ورشوة خبروها في معترك عملهم اليومي.

بحسب دراسة من جامعة باساو الألمانية، هناك علاقة وطيدة بين الرشوة والاستثمارات الأجنبية المباشرة. حيث أن ازدياد نقاط دولة ما بمقدار نقطة واحدة في جدول منظمة الشفافية الدولية يمكن أن يؤدي إلى استقطاب مزيد من الاستثمارات بمقدار %15.

بيد أن نفوذ الإصلاحيين محدود في مجلس الوزراء وفي الحزب الوطني، وهذا الأمر لا يزال غير معروف للجميع. واشتكى رشيد محمد رشيد وزير التجارة الخارجية والصناعة حديثاً في جريدة الأهرام الأسبوعية، من رجائه قبل إجراء مقابلة مع التلفزيون المصري، أن لا يأتي على ذكر كلمة فساد أثناء المقابلة: "توضع الرقابة على كلامي من قبل تلفزيون بلدنا!"

بيد أن سعد الدين ابراهيم يرى تقدماً. إذ يشارك المجتمع المدني المصري بشكل متنامي في مكافحة الرشوة. يضاف إلى ذلك الحريات الأوسع الممنوحة للصحافة المستقلة. حيث "يقوم صحفيوها الاستقصائيون بعمل رائع".

الانتخابات الديموقراطية هي أنجع الوسائل لمكافحة الفساد والرشوة على الإطلاق. بغض النظر عن الذي مرّر المعلومات حول ابراهيم نافع لمصطفى بكري، فقد شكلت المقالات حملته الإنتخابية في نقابة الصحفيين في أيلول/سبتمبر الماضي.

وانتخب أحمد السيد النجار، المولع بالبحث، في تشرين الأول/اكتوبر كعضو في مجلس إدارة الأهرام، لأنه حاز بين زملائه على سمعة المكافح من أجل الشفافية. يريد النجار الاستعانة بمنصبه كي يجمع المعلومات عن مستنقع الفساد: "أريد التوصل لمعرفة أملاك مؤسسة الأهرام الفعلية".

فريدريك ريشتر
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2005

الديموقراطية ومكافحة الفساد في البلاد
تعاني شرائح واسعة من الناس في المجتمعات العربية من مشكلة الرشوة التي تعد جزءً لا يتجزأ من أزمة الديموقراطية.

www

Transparency International