وهم أم واقع؟

يرى الباحث والكاتب فريد هاليداي أن الغرب ودول الشرق الأوسط على حد سواء بحاجة إلى تحليل واقعي للسؤال عن أسباب عدم نهوض الديموقراطية في عدد كبير من الدول العربية والتقرير الأخير عن التنمية الإنسانية العربية لا يعطي تفسيرات شافية.

بدأت مسألة الإصلاحات السياسية في العالم العربي تكتسب في غضون الشهور الماضية أهمية متزايدة. هناك سببان وراء ذلك. في الولايات المتحدة وأوروبا بسبب تحمس إدارة بوش الجديد حيال التحولات الواقعة في الشرق الأوسط.

أما في العالم العربي فإن ذلك يعود إلى أسباب وتطورات متعددة. هذا يشمل الانتخابات في العراق وفلسطين والاحتجاجات التي وقعت في لبنان ضد الوجود السوري هناك وإعلان بعض هذه الدول كمصر عن العزم على تحديث دساتيرها.

ليس بوسع أحد اليوم أن يتكهن بما سيؤدي به هذا الربيع العربي ولا حتى عما إذا كان ذلك يستحق تسمية "الربيع". ومازال الوقت مبكرا لمعرفة ما إذا كانت السياسة الأمريكية سيكون لها بالفعل تأثير على التطورات المقبلة.

من ناحية أخرى كان من الخطأ الافتراض بأن مثل هذا الاحتمال غير وارد على الإطلاق. وكما عهد الماركسيون على التأكيد عليه فإن الإمبريالية قد تنعكس وبأشكال متناقضة كثيرا على مجريات الأحداث.

الذي ينقصنا في جميع الحالات سواء في الغرب أو في منطقة الشرق الأوسط هو تحليل واقعي للسؤال عن أسباب عدم نهوض الديموقراطية في عدد كبير من الدول العربية.

وكان ينبغي على تحليل من هذا النوع أن يوضح مدى إمكانية ترتيب هذه المسألة في سياق آخر أي سياق تاريخي وفيما يختص بالخصوصية الإقليمية وفي إطار الوضع الدولي.

فكل هذه المسائل تلعب دورا هاما سواء بالنسبة لتوضيح الحالة الديموقراطية الراهنة لكل من هذه الدول أو بالنسبة للسياسة التي تمارسها هذه الدول من الناحية العملية.

العرب محط الأنظار

لا يمكن أن تكون واشنطن نفسها هي نقطة انطلاق مثل هذا النقاش. فالنهج البلاغي لحكومة بوش يفتقد فيما يتعلق بالتحول الدائر في الشرق الأوسط لكلا الفهم التحليلي والجوهر الأخلاقي.

وكل ما تفعله حكومة بوش أنها تستخدم من جديد القوالب السياسية المعهودة في واشنطن والمتغيرة مرة تلو الأخرى. ويتحتم علينا ألا ننسى بأن الأشخاص المعنيين في هذا السياق هم نفس الوجوه التي قالت عند وصولها إلى السلطة عام 2000 إن "قضية إنشاء الأمم ليست قضيتنا نحن".

لا المحافظون الجدد المؤيدون لفكرة التحول الشامل ولا خصومهم الليبراليون مثل توماس فريدمان الذي تعطى عنه صورة إيجابية تتسم بالمغالاة الكبيرة، يقدمون لنا ولو حتى مجرد لمحة بسيطة من المعرفة عن السياق التاريخي لمجريات السياسة في الشرق الأوسط.

بناء على رؤاهم تمر المنطقة بحالة "عزلة" حيال التطورات العالمية كما أنها "ذات مناعة" فيما يتعلق بالإصلاحات. هذا على الرغم من أنه يتحتم على كل من كانت لديه ولو قشور معرفة حول قضايا المنطقة بأنها قد مرت على عكس تلك المقولات تماما بعمليات حاسمة ومتعددة للتحول السياسي.

أمثلة عديدة

يتضمن ذلك الحركة الإصلاحية أثناء حقبة "التنظيمات" في العهد العثماني (1839- 76) والثورة الدستورية الإيرانية عام 1906 والثورات الاشتراكية أو الشعبوية في العالم العربي كالجزائر ومصر والعراق واليمن.

يهمل النقاش الغربي الراهن حول موضوع الإصلاحات في الشرق الأوسط بالإضافة إلى ذلك عاملين رئيسيين من عوامل علم الاجتماع السياسي:

أولهما كون صيغ الأنظمة السياسية السائدة في المنطقة ليست نتاجا لعمليات حضارية أو لنقل على الأقل داخلية الطابع، بل نتيجة لإنشاء الأمم أو بسبب إجراءات إدارية فرضت عليها فرضا أو بحكم وقوع تدخل عسكري أو إنحراف إيديولوجي وإما كنتيجة للحرب الباردة أو السياسة النفطية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1918.

دول الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل هي كشخصية أسامة بن لادن نفسه إفراز لأحداث تاريخية دولية معاصرة لا سيما الحرب الباردة.

الديموقراطية نتاج تطور بطيء

عندما يستنتج المرء ذلك لا يكون المقصود من ورائه تحميل الغرب وحده المسؤولية، بل كان الهدف توضيح كيفية الأسباب التي جعلت هذه الدول تصل إلى الدرجة المعهودة لدينا اليوم وتعريف الجهات التي تدعمها والمصادر التي تسبغ عليها طابعها المميز وأسباب كل ذلك.

البعد الآخر المهمل نقاشه اليوم في سياق علم الاجتماع السياسي هو تاريخ التحول الديموقراطي الغربي نفسه. إن الديموقراطية لم تتحقق في دول الغرب بين عشية وضحاها ولا عن طريق الانتخابات أو التحول السريع بل ضمن عقود طويلة ومن خلال حروب تقليدية وحروب أهلية شنت في سبيل تكريس الحريات الديموقراطية.

التقرير الثالث حول التنمية الإنسانية العربية الصادر عن مجموعة من المثقفين العرب وبدعم من الأمم المتحدة يشكل على عكس ذلك نقطة انطلاق جوهرية وحافلة بالمعلومات الهامة. وقد عرض هذا التقرير في 25 مايو /أيّار أمام معهد إلكانو للدراسات الدولية والأمنية في مدريد.

ترى ريما خلف هنيدي رئيس الفريق العربي، التي تقلدت مناصب وزارية متعددة في الأردن، بأن العالم العربي قد أخفق في السيلق الدولي في كافة المجالات منذ عام 1980.

بالفعل فإن الأرقام تؤكد على هذه المقولة بشكل واضح. 32 مليون فرد يعانون من نقص في التغذية. وعلى الرغم من عائدات النفط فإن معدل دخل الفرد ارتفع هناك بمعدل أدنى من دول أخرى. وما زال هناك 65 مليون فرد يرزحون تحت طائل الأمية منهم ثلثان من النساء.

ثم أن النزاعات الإقليمية لا سيما في العراق وفلسطين تفرز تيارات متطرفة. وبناء على التقرير ما زالت هناك دول يطلق عليها التقرير تسمية "الثقوب السوداء" تحرم مواطنيها من أبسط الحريات السياسية ومن إمكانية بناء حياتهم الشخصية بأنفسهم.

حوار الحضارات

منطلق التقرير معتدل فهو يربط بين استيعاب السوابق السياسية الإقليمية والحضارية لتاريخ حركة الديموقراطية العربية وبين الآفاق المقارنة التي تشير إلى القصور الشديد في قطاعات التعليم والدخل الفردي وقيادة الدولة. هذان المنطلقان الإقليمي والمقارن يشحذان الاهتمام بمتابعة النقاش الدائر.

وقد يبدو الاستشهاد بالمفكرين القوميين العرب والمسلمين وبإصلاحات ليبرالية في مجال الشريعة في الوهلة الأولى كما ولو أنه يأخذ أحد أهم الوسائل السياسية في عصرنا هذا لما يسمى "حوار الحضارات" في عين الاعتبار.

ومما لاشك فيه هو أن مثل هذا الحوار يستحق فائق أشكال الترحيب طالما جاء في خدمة التعليم والتفاهم المتبادل والسلام. أما في حالة ظهوره في وثيقة للأمم المتحدة فينبغي علينا أن نراعي ضرورة عدم تناقضه مع القاعدة السائدة منذ أكثر من أربعة عقود لكل نقاش يدور حول هذا الموضوع أي مع البيان العام الصادر عام 1948 حول حقوق الإنسان.

هذه الوثيقة طالبت كحال ما تبعها من وثائق أخرى بضمان الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتحررية النابعة من معايير نافذة المفعول عالميا وتدعو في نفس الوقت إلى فرضها عالميا على نحو إلزامي.

لغة الأرقام غير كافية

من ناحية أخرى قد يؤدي تحليل الوضع في الشرق الأوسط على قاعدة الأرقام وحدها إلى حجب الرؤية عن تطورات أخرى تحتل ذات الأهمية بدلا من كشف الستار عنها. فقد قيل الكثير عن ندرة الكتب الأجنبية المترجمة إلى العربية في السوق العربية للكتب لإثبات مدى تقوقع العرب على أنفسهم وعزلتهم حضاريا.

لكن المشكلة الحقيقية لا تكمن بناء على تجربتي الشخصية في وجود اعتراض على أعمال الترجمة في حد ذاتها، بل بحكم انعدام الرغبة في أداء رسوم الترخيص. ويبلغ عدد الكتب الأجنبية المترجمة إلى العربية أكثر مما هو محل الاعتقاد بصورة عامة.

وأنا أتذكر نقاشا جرى في فضائية الجزيرة بيني وبين الناشر المصري وتاجر الكتب الشهير مدبولي الذي يتمتع بشعبية كبيرة للغاية. قال مدبولي في سياق حديثه بكل بساطة "حقوق النشر أمر إمبريالي" ردا على مطالبتي بدفع رسوم الترخيص الخاصة بترجمة كتابي.

من يملك السلطة الفعلية في العالم العربي؟

وهناك حاجة لمعاودة النظر على نحو شبيه بذلك فيما يتعلق بآراء المواطنين حول "ساستهم" الواردة في التقرير العربي حول التنمية البشرية. قد يكون استخدام مفهوم "السياسي" في حالة دول أمريكا اللاتينية أو أوروبا أو أفريقيا مناسبا.

أما في الشرق الأوسط فهو وصف لمجموعتين مختلفتين من الناس. هناك أولا الوزراء ونواب البرلمان الذين لا يتعدون كونهم أدوات طيعة في أيدي السلطة.

هناك ثانيا أشخاص يتمتعون بنفوذ سياسي واجتماعي قوي للغاية هم أعضاء الأسر الحاكمة سواء في الأنظمة الملكية (السعودية، الكويت، قطر، المغرب الخ.) أو أشخاص تابعون لعائلات رؤساء الجمهوريات (على سبيل المثال مصر، ليبيا، تونس، اليمن، سوريا).

هذه العائلات هي التي تملك السلطة الفعلية في البلاد وليس السياسيون الذين يتقلدون منصبا ما وينالون مبلغا متواضعا لقاء ذلك. ويمكن القول من باب التبسيط بأن أعضاء الأسر الحاكمة والحاشيات المقربة منهم يضعون قرابة ثلث دخل الدولة في جيوبهم الخاصة.

الأمر الذي تطلق عليه السفارات الأمريكية مجازا عبارة "خارج عن الميزانية" „off-budget“. هنا الموضع الحقيقي للمحنة القائمة في دول الشرق الأوسط، لا انتشار الرشوة لدى طبقة السياسيين.

العرب في المرتبة الأولى للعالم

توجد معالم تحول آخر في هذا التاريخ المعقد " للإصلاحات" العربية وما يرافقها من شلل سياسي. ربما نجح التقرير العربي حول التنمية البشرية حقا في تصحيح بعض التعميمات والأكليشيهات السائدة في الغرب ونجح بالتالي في إظهار عناصر من الحضارة والدين والتاريخ الحديث تنم عن حدوث تحول ديموقراطي.

لكن هذا التقرير يتسم من رؤية أفراد المجتمع بطابع مختلف تماما، حيث أنه لا يقوم إلا بمجرد التأكيد بشكل توثيقي جيد وبعبارات واضحة التعبير على ما عرفوه بوحي الغريزة منذ وقت طويل.

يمكن أن نقارن التقرير بطبيب يشرح لمريضه بعبارات موضوعية علمية ما تحسسه المريض بشأن حالته الصحية منذ وقت طويل. فالتقرير يعطي من خلال عرضه لمقارنات تشمل كافة القارات وأرقاما مثيرة للاهتمام قاعدة قوية لتجارب عاصرها العرب بأنفسهم كما أنه يعبر عن أمور يتحسسها ويفكر بها الكثيرون منهم.

في الكثير من الروايات العربية المعاصرة هناك مواضع عديدة تتطابق مع ما ورد في التقرير حول الرشوة وهدر فرص الحياة ونهبها. وهذا لا يتضح في أي مصدر آخر بصورة أفضل مما ورد في الثلاثية الرائعة حول شبه الجزيرة العربية "مدن الملح" التي ألفها الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف الذي توفي في العام الماضي وقضى معظم سنين عمره في دمشق.

يجد المرء أنماط النقد السياسي أيضا على صورة موسيقى البوب أو في قصائد الشعر في العديد من الدول العربية مثل مصر والسودان.

أفضل مستند يعطي صورة عن موقف العرب تجاه حكامهم روح النكتة لديهم وهي صفة منتشرة عند العرب في كل أنحاء الشرق الأوسط، وإن لم تعط هذه الصفة الاهتمام الذي تستحقه.

فهذه الروح الفكاهية لا ترحم أحدا، سواء كان رئيس حكومة أو قائدا دينيا فالكل عرضة لروح السخرية القارسة.

هناك نكتة تروى عن رئيس إحدى الدول العربية اعتاد على إلقاء خطب طويلة مملة إلى درجة قاتلة مما جعله يطلب من مستشاريه كتابة خطب أقصر له في المستقبل.

وعندما ألقى في المرة الأخرى خطابا استغرق ذلك ساعتين كاملتين، صرخ الرئيس غاضبا في وجوه مستشاريه قائلا لهم: "ألم أقل لكم اكتبوا لي خطابا أقصر؟" فردوا عليه "نعم يا سيادة الرئيس، لكنه لم يتوجب عليكم قراءة كل النسخ الخمس من الخطاب".

لو قامت الأمم المتحدة في يوم من الأيام بتقديم سرد كمي لروح الفكاهة السياسية أو لنسمي ذلك "فهرس الفكاهة العالمية" فإن العالم العربي سيحتل مؤكدا بجانب إيران المرتبة الأولى بناء على تجربتي.

بقلم فريد هاليداي
حقوق الطبع فريد هاليداي
ترجمة عارف حجاج
صدرت النسخة الأصلية من المقال في موقع OpenDemocracy

فريد هاليداي أستاذ زائر في مؤسسة سيدوب في برشلونة.


قنطرة

نقد من الداخل والمطالبة بإصلاحات
صدر التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية بعد تأخر عدة أشهر، بسبب ما يتضمنه من نقد حاد للسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. ويرسم مؤلفو التقرير ثلاثة سيناريوهات للتطور الديموقراطي في المنطقة العربية. تعليق سونيا حجازي

العالم الإسلامي والإصلاح
تحتاج المناطق الإسلامية إلى مبادرة إصلاح شامل لأوضاعها، هذه هي خلاصة الباحث اللبناني رضوان السيد في كتابه الجديد "الأصولية والإصلاح والسياسات الدوليّة" الذي صدر عن منشورات الكتاب العربي في بيروت. فولفغانغ غ. شفانيتس يقدم قراءة للكتاب

أولوية القانون وإصلاح القضاء
يلاحظ المرء اتجاها عاما في الشرق الأوسط ينبئ عن انفتاح تدريجي ومزيد من الشفافية. رامي خوري، رئيس تحرير الجريدة اللبنانية اليومية "ديلي ستار"، يناقش مع خبراء من مختلف التخصصات الخطوات اللازمة لضمان تحقيق تغيير جذري في المنطقة، الإجابة هي: الإصلاح القضائي.

www

OpenDemocracy
تقرير التنمية الإنسانية العربية 2004