يوميّات جولة موسيقية في الشرق الأوسط

قليلة جدا تلك الرحلات الفنية التي تضم كل هذا الكم من المتناقضات وكل هذا االتركيز على التفاصيل، إلا ان الموسيقار أودو مول عضو فرقة شيل سيك براس باند الألمانية إستطاع أن يجمعها بتجانس وكأنها مقطوعة موسيقية.

المحطة الأولى: إيران
فرانكفورت .. الإنطلاق

انطلاقة المغامرة الفعلية كانت في فرانكفورت. من هنا تبدأ الرحلة الحقيقية عبر القارات: الطائرة أكبر بكثير، والمضيفات يبدون بهيأة مجتمعيّة راقية، حركاتهن أكثر رشاقة وعلى محياهنّ ابتسامة لا تمّحي.

خمسة عشر دقيقة قبل الهبوط في طهران؛ هنا تبدأ عملية التحول الكبرى: النساء يُخرجن أغطية الرأس من حقائبيهن، يضعنها على رؤوسهنّ، يلفُفن ويجذبن كما ينبغي كي يبدو الغطاء في هيأة لائقة وأن لا يظهر من الشعر أكثر مما ينبغي، أو أقل مما ينبغي.

يبدو مطار طهران من النظرة الأولى لطيفا جدا يحيط به البصر بسهولة، شيء شبيه بأجواء قاعة شاي بألوان باهتة، لكنها تحمل لافتات ضوئية عليها كتابة بحروف شبيهة بحشرات. في دكان التذكارات توجد بازوكات من البلاستيك بحجم مطابق للأصل؛ أسطورة القتال والمقاومة تلعب بالفعل دورا هاما هنا.

بعدها تتواصل الرحلة باتجاه مطار خاص بالخطوط الداخلية؛ هنا توجد مداخل منفصلة للرجال والنساء. كان أحد الشبان الإيرانيين ونحن ما نزال في المطار الدولي قد توجه بالكلام إلى مغنية فرقتنا هاينالكا معتذرا بحرارة وهو يعلمها بأنه ينبغي عليها أن تضع غطاء على رأسها؛ كان يبدو كما لو أنه يشعر بنفسه مسؤولا بصفة شخصية.

قاعة الانتظار مثل عنبر نوم لمنظمة جند الخلاص المسيحية الخيرية: فوق كل مقعد تقريبا ينام إيراني قبالة شباك تسجيل الأمتعة، وجميعهم قد خلعوا أحذيتهم ووضعوها أزواجا مرتبة بعناية تحت المقاعد.

الساعة الثالثة ليلا ونحن نمر عبر مدينة طهران؛ هنا ينتبه المرء لوجود ولع بالشرائط الضوئية ومفاعيل النيون فوق واجهات كل البنايات وفي كل المواقع. منظر شبيه بشارع Schildergasse الكولوني خلال أيام الاحتفالات بعيد ميلاد المسيح.

من العتمة تظهر على الدوام مجموعات من منظفي الشوارع ببزّات العمل البرتقالية وكمامات واقية على أفواههم، يعملون في ظروف خطيرة وسط الطريق السيارة التي تعبر المدينة؛ يكنسون الشارع بمكانس هائلة عجيبة الهيأة. مثل فريق من فرق حضائر التشغيل الاجتماعي قد أخطأ طريقه بدت لي تلك المجموعات، أو كتيبة للمحكومين بالأشغال الشاقة.

الوصول إلى شيراز

نصل شيراز في الصباح الباكر. أول ما نقوم به هو الذهاب مباشرة إلى الفندق لنأخذ لنا بضعة ساعات من النوم. تقع شيراز بين الجبال والبراري، واللون الطاغي في تلك النواحي المحيطة هو البني الأغبر، أما مفاتن المدينة فتوجد مختبئة داخل الحدائق الكبيرة والمنتزهات الخضراء.

بروفة في قصر الثقافة مع موسيقيين إيرانيين: محمد وهو نقّار إيقاع لا يعرف الإنكليزية ، لكنه يفهم المقصود بسرعة. هانّي تتمرّن على بعض القطع مع فتاتين وثلاثة شبّان من جمعية الغناء المحلية.

كنا إذن جميعنا معا على خشبة العرض: ست أشخاص نغني بصوت واحد(unisono)؛ أمر رائع فعلا! رئيس الهيأة المنظمة المحلية التي تدعى "مؤسسة فارس" جالس في القاعة ويستمع بكل انتباه. لا بد أن يكون كل شيء محسوبا بدقة كي تكون الأصوات الرجالية مسموعة أكثر بقليل من الأصوات النسائية، ذلك أن النساء لا يحق لهن الغناء في الأماكن العمومية في إيران.

بعدها يبادرني سعوديّان بالكلام في الفندق، وهما يوجدان هنا من أجل حضور معرض للسياحة فقط. كانا معجبين لكوني موسيقي يأتي لجولة في إيران، وقد قرآ عن العرض لكنهما لم يستطيعا الحضور، وذلك يؤسفهما كثيرا. يعبران لي عن تهانيهما، مبتهجين كبير الابتهاج وهما يصافحانني بحرارة. كل ذلك في ظرف 40 ثانية. كل هذا الانفتاح، وهذا الدفء والمودة تجاه الغرباء يرجّني عميقا.

الإيرانيون هم أيضا هكذا؛ كلهم على نحو مدهش من حب الاطلاع؛ يبادرك الناس بالكلام في الشارع، يريدونك أن تحكي لهم عن ألمانيا، وكيف وجدت إيران...إلخ. مجموعات بكاملها تتحلق حول الأجنبي معجبين جميعهم بأنه بإمكانهم التحدث إلى شخص غريب.

​​في اليوم الموالي: نبدأ بجولة سياحية قبل كل شيء؛ زيارة آثار مدينة برسيبوليس. مرشدتنا السياحية تدعى شيفا، وهي شابة جميلة جدا ونشطة جدا، تتقن الإنكليزية وتأخذ عملها مأخذ الجد. برسيبوليس مدهشة، لكن الجولة كلها تحت قيظ ملتهب ولا ظلّ هناك. مساء، موعدنا مع العرض الأول لجولتنا.

800 شخصا قدموا إلى قصر الثقافة بشيراز، جميعهم مأخوذين كليا بالمقطوعات البافارية والإيرانية التي قدمناها لهم. إعجاب حقيقي. بعد الحفل بدت زاها متخوفة، لأن صوتها قد سمع منفردا لمدة ما يقارب العشرين ثانية، ولأن واحدا بليدا من قوى القمع الأخلاقي لم يفوت أن يستفزها بسبب ذلك، مباشرة بعد انتهاء العرض.

في اليوم التالي؛ ورشة عمل داخل قاعة صغيرة بالمركز الثقافي تحيط بنا على اليمين وعلى الشمال صور الخميني وخامنئي المثبتة على الجدران كما هو الحال في كل مكان. أما ورشة العمل فهي بالأحرى نوع من ندوة صحافية وحصة استجوابات.

هناك ما يقارب 30 شخصا أغلبهم من الشباب؛ أجلس ورايموند على المنصة ونرد على الأسئلة. ومن حين لآخر يدعى واحد من العازفين لتقديم توضيحات خاصة حول آلته الموسيقية.

الأسئلة ذات مستوى راق مدهش فعلا مقارنة بالمستوى العالمي، وتدلّ على خلفية معرفية موسيقية جيدة وعلى ذكاء. يعني أنها لم تكن من ذلك النوع المتداول: "ماذا يعني إسم الفرقة؟" و "كيف وقع اختياركم على هذه المقطوعات؟"، بل أسئلة ذات طابع اختصاصي دقيق في جزء منها:

كان على غيللرت مثلا أن يوضح سرّ الكابس الرابع في آلة "التوبا"(نوع من النفير)، وهناك من عبّر عن رغبة في إدخال مؤثرات صوتية خاصة على البوق، كما برزت أسئلة حول "الحداثة البعدية في الموسيقى"، وما هو رأيي في فرقة "رامشتاين".

عودة إلى طهران. للمرة الأولى والوحيدة أرى في مطار شيراز صورة للرئيس خاتمي إلى جانب الصورتين الأخريين اللتين لا يخلو منهما مكان، إلاّ أن الإنارة معطلة فوق خاتمي، وبينما الآخران يشعان يبدو هو خابيا باهتا. إنها صورة تفشي موازين القوى السياسية داخل البلاد. غير أن الخميني يبدو في مظهر جيد حقا، ذا مهابة وبنظرة تذكر بالممثل الشهير شين كونري.

​​طهران مدينة هائلة الحجم تمتد متسلقة المرتفع بحيث يكون فارق العلو بين طهران الشمالية وطهران الجنوبية بما يعادل 700مترا. طهران الشمالية تقع على علو 1700 مترا؛ من هنا يمكن رؤية الجبال، كما أن الضباب يغدو أقلّ وطأة. وبالتالي فإن شمال المدينة هو موقع الأحياء السكنية الفاخرة، والإيجارات هنا لا طاقة للمواطن العادي عليها.

النشوة المقدسة

نعبر الشارع الذي كان يقطن فيه الخميني. خامنئي يسكن في وسط مدينة طهران، إنه ليس غنيا مثل الخميني، يقول بابك سائق الحافلة. على الصور تبدو عليه مسحة من شعبية أكثر من سابقه.

وفي ما عدا ذلك وقعت عيناي اليوم ولأول مرة على لوحات جدارية ضخمة تجسد الاحتفاء بالملحمة الاستشهادية الإسلاموية. لكن لحظات النشوة الدينية الأكبر سنعيشها داخل المقام الشيعي المقدس للإمام صادق نجل أحد الأئمة الذي يوجد ضريحه في هذا المكان، وقد قتل تحت التعذيب من طرف السعوديين. بابك يسأل إن كان بإمكاننا كمسيحيين أن نلج هذا المقام المقدس. أجل، يمكننا ذلك.

هنا أيضا يدخل الرجال والنساء منفصلين، وكان على هاينالكا أن تستعير تشادور أسود تلتف به. في الداخل جو من سكينة سلام سعيدة، مثل واحة من الهدوء مقارنة بالحركية والهرج داخل البازار الملاصق.

نلج المكان المقدس الحقيقي داخل هذا المقام من دون أحذية. حجرة صغيرة مجوفة بقبة مكسوة بمرآة، داخلها يوجد خلف حاجز متصل من الصفيح تابوت الشهيد تغطيه ألحفة مطرزة بآيات قرآنية وفوقه كتاب كبير.

في هذا الموقع التحتي يبدو على وجوه الرجال تأثر عميق واضح، يشهقون ويقبلون قضبان الحاجز الحديدي، يمسحون بأيديهم على الجدران ثم يمررونها منقعة في البركة على وجوههم، ويرتلون الأدعية بحرارة طالعة من الأعماق.

لكن الأكثر تأثيرا هو ما كان يتناهى إلينا من الجانب الآخر للتابوت الذي يفصله باب عن هذا الجانب، من أصوات النساء وهن ينتحبن وينشدن ويطلقن الشهقات، وكل ذلك بصوت مرتفع إلى حد ما.

النساء يحدثن صخبا أكثر من الرجال. أشعر بشيء من التأثر لمشهد هؤلاء الناس وهم في غاية الانفعال ورهافة الإحساس. حالة من الحميمية، أشعر بنفسي حيالها ممزقا بين الاحترام العميق والشعور بأنني أحظى هنا بإمكانية معايشة أمر على غاية من الأهمية من جهة، وشعور بالقلق من جهة أخرى، متسائلا إن لم يكن وجودي هنا يمثل شيئا من الإزعاج، أو إذا ما كان يحق لي أصلا أن أكون هنا.

المحطة الثانية: لبنان

رحلة بالطائرة من طهران إلى دمشق، وفي اليوم الموالي ستبدأ الرحلة بالحافلة من هنا: في الطريق من دمشق إلى بيروت على متن حافلة صغيرة يكون أمام المرء اختياران؛ إما الحمّام والشيّ دون مكيّف، أو الهواء الجليدي القاتل الذي ينبعث من كل شقوق المكيّف.

مرت علينا ساعة من الوقوف على الحدود السورية اللبنانية. ازدحام هنا، لكن الأمور تسير آخذة مجراها؛ وهو مجرى بطيء. رايموند قد استقبل من طرف رئيس مركز الحدود و نال ما يليق بالمقام من إجراءات الترهيب.

لعبة وضع النقاط على الحروف بخصوص من هو صاحب السلطة هنا، التي تمثل في الحقيقة جزء من سجل المعاملات المتداول في كل النقاط الحدودية في العالم، تمارس في هذه المنطقة بتفان خاص، على ما أعتقد، وتتخذ طابعا مسرحيا واضحا.

وراء المعاملة المهذّبة التي لا غبار على صدق نواياها، تتراءى دوما إمكانية أن يتسبب استياء ما لصاحب السلطة المحلية في منع المسافر من العبور. لم يكن كل هذا إلى حد الآن سوى الخطوة الأولى في مغادرة التراب السوري، وكنا نعتقد أننا قد اجتزنا العقبة.

لكن فرحتنا كانت سابقة لأوانها؛ ما تزال هناك محطة حدودية أخرى، وهنا ستبدأ محنة عبورنا الأولى. لكنها دراما صامتة عنيدة ومن دون لحظات درامية حقيقية. بعد تعبئة بطاقات الدخول التي لا تغيب عن أي مكان منعنا الجماعة من العبور. ثم نودي على المسؤولين، وانطلقت النقاشات.

أما عن الأمر الذي كان يبدو غير مضبوط في وضعنا فلم يكن لينكشف لنا إلا رويدا رويدا: يتعلق الأمر بشيء مثل الافتقار إلى رخصة عمل، وبمسألة إن كنا سندخل البلاد كسيّاح أم في مهمة عمل. وبما أن تأشيرتنا كانت تحمل عبارة "حفل موسيقي"(concert musical) فإن ذلك لم يكن ليعني أننا نقوم بسفرة خاصة وشخصية. على أية حال: التأشيرة كما هي ليست صالحة.

لم يكن هناك ما يوحي بأنه يراد إزعاجنا من وراء هذا التصرف، بل كل ما في الأمر هو أن لا أحد يرغب في القيام بخطإ ما، والحال أن فرقة موسيقية ألمانية تعبر الحدود السورية اللبنانية مما يبدو أنه حالة خاصة لم يكن لها من سابقة في مامضى.

نجلس للانتظار إذنْ داخل كشك مكيّف على الحدود، نشرب شايا ونجرب أنواعا من البسكويت والحلويات العربية. على شاشة التلفزيون هناك مسلسل مصري عن فتيات في مدرسة للكاراتيه بممثلين يؤدون أدوارهم بتكلّف على غاية من الطرافة.

في الأثناء كان أحد عساكر الحدود قد تصادق معنا، وكان يرغب في حضور الحفل الذي سنحييه، كما دعانا أيضا لزيارة بيته بعد بيروت، دعوة كان علينا أن نردها بسبب برنامج رحلتنا الصارم.

أخيرا، وبعد أربع ساعات من الانتظار؛ تأشيرة جديدة ومواصلة الرحلة باتجاه بيروت عبر جبال بلون أصهب صحراوي.

مدينة كالحلم

​​الجزء الأكبر من المدينة يبدو اليوم بهيأة حلم مستثمرين وأعوان تنمية عقارية قد تحقق للتو:حركة البناء في كل مكان، قصور زجاجية وأحياء على شاكلة بوتسدامر بلاتس ببرلين، كما أن إعادة بناء بيروت العشرينات يتم في جزء منه وفقا للنمط الأصلي .

مساء نذهب إلى حانة ‚Barometre’ واحد من المنتديات الهامشية الطلائعية للشباب المحلي. نجلس متلاصقين إلى مائدة مستديرة ونشرب عرقا. هنا يجد المرء نفسه في كل مكان جالسا داخل الوهج الجليدي للمكيفات.

أشعر بأمراض تتصاعد في داخلي، بينما الشباب المحلي يبدو متعودا على الأمر. لكن عندما بدأت الطاولات تردد مع المغنين مقطوعات عربية من حولنا، ونحن هناك وسط الحفل، شعرت بنفسي سعيدا من جديد.

في اليوم التالي كان علينا تقديم عرضنا الموسيقي في قاعة سينما قميئة المظهر لكنها شاسعة. قاعة قديمة ظلت لسنوات عديدة خالية من العروض ويراد الآن إحياء نشاطاتها من جديد، وحفلنا هو العرض الافتتاحي لبرنامج النشاطات الثقافية الجديدة.

بعد العرض التقيت بعازف البوق البُروجي المرتجِل الوحيد(كما يُزعم) في منطقة الشرق الأدنى، مازن كرباج، وكانت لي معه محادثة لطيفة ومتحمسة حول الصراع البطولي الذي تخوضه مجموعة صغيرة من العازفين الارتجاليين في لبنان ضد الجهل والسباب التي تكيلها لهم الصحافة اليومية. مع مازن وجدتني ألتقي أخيرا ولأول مرة بواحد يبقع قميصه الأبيض بالنبيذ الأحمر بأسرع مما أفعل.

المحطة الثالثة: سوريا
دمشق

عودة بالحافلة إلى دمشق. دمشق خلافا لبيروت، هي الشرق بأتم معنى الكلمة: كل شيء مصغر، البازارت، الأسواق، باعة الرصيف، مدخنوا النرجيلة في مقاه صغيرة في كل مكان، حركة واكتظاظ في كل زاوية، والناس هنا أيضا على درجة عالية من الانفتاح، لطيفون ويبدون اهتماما واضحا بالأجنبي.

​​في اليوم التالي علينا الصحو في ساعة مبكرة؛ ففي الساعة التاسعة كان لنا موعد جولة منظمة عبر مدينة دمشق العتيقة. مجموعتنا تجد نفسها مشلولة النصف من جراء انتشار الاضطرابات المعوية؛ خمسة أشخاص ننطلق إذن في جولتنا بقيادة الدكتور عمر مدني.

الدكتور مدني سيد لطيف متقدم في السن، وهو مهندس معماري لكنه عاطل عن العمل منذ ثلاث سنوات، لذلك تحول إلى المجال السياحي. في الطريق إلى المدينة العتيقة بدأنا نلاحظ عددا كبيرا من المسلمين القادمين لأداء زيارة حج، وبصفة خاصة نساء بعباءت سوداء من إيران وباكستان والعراق.

في مدخل سوق الحميدية كان أمامنا مشهد لا ينسى: كوكبة من تلك النساء اللاتي يذكرن بأشباح القصور السوداء يتجمعن كتلة متلاصقة مذعورات ومتقوقعات أمام سلم كهربائي. بعضهن فوق السلم الآن لكنهن في حالة من الذعر، يطلقن صرخات حادة، يجلسن على الدرج أو يقعن فوقه. كان لا بد من إيقاف السلم إذن، ولم تتمكن المجموعة من التجرؤ على تسلق السلم المتوقف مكرهات إلا تحت محاولات إقناع مكثفة من بعض المارة من الرجال.

كل هذا لأن هؤلاء النساء، في أغلب الظن، يرين لأول مرة في حياتهن سلما كهربائيا. أما لماذا لم يصعدن الدرج العادي المحاذي لهذا السلم، فذلك ما يظل دون تفسير!

مساء، عرض في مدرّج من الستينات في حديقة تشرين. وبإيعاز منا يشرع الحاضرون في الرقص قبيل نهاية العرض، وهو أمر غير متداول عادة في الشرق الأدنى.

دمشق - حلب

الساعة التاسعة صباحا؛ انطلاق الحافلة باتجاه حلب. المنظر الطبيعي خلاء قفر على امتداد البصر: تلال صخرية صهباء بهيأة صحراوية، بعض تجمعات سكانية متفرقة هنا وهناك مع حقول خضراء؛ هنا يستعمل الريّ لاستفلاح الأرض وإنتاج الخضروات لتزويد مدينة دمشق.

واضح أن هناك أزمة مازوت في البلاد منذ أيام، سائق حافلتنا يتوقف في كل محطة بنزين، ولا يقابل في كل مكان إلا بهز الكتفين وحركات تنم عن الرفض؛ ليس هناك مازوت. والمازوت يتمتع في سوريا بدعم الحكومة وهو رخيص جدا، لكنه مخصص للحافلات والشاحنات دون غيرها، وليست هناك عربات مازوت من النوع الصغير.

وبما أننا لن نقضي سوى يوم واحد في حلب فقد اتجهنا مباشرة بعد وصولنا إلى البازار، وهو بامتداده على مساحة 11 كلمترا أكبر بازار في منطقة الشرق الأوسط.

بعد بعض جهود في البحث-إذ أغلب السكان لا يعرفون الإنكليزية وبالتالي لم يكن بوسعهم أن يقرأوا محتوى البطاقة التي سلمت لنا في الفندق- وجدنا أنفسنا في قلب الأسواق، وهي هنا ذات طابع شرقي أكثر وضوحا من سوق دمشق، والمحلات أكثر ضئالة: أنصاف خرفان معلقة، أهرام مرصفة ومزينة من القهوة الممزوجة بالهيل، فساتين عرائس، ذهب، أردية بربرية، أقمشة، مواد حديدية، سجادات، خيام؛ بكل بساطة، كل شيء موجود هنا.

بعدها عدنا إلى الفندق، ثم تنقلنا بالحافلة باتجاه مكان الحفل الموسيقي وهو ثكنة عسكرية مهجورة (للجيش السوري) مشرفة على المدينة من موقعها فوق الجبل.

البناية مقر قيادة عسكرية سابقا، فاخرة ومبنية حسب نمط مستعار من عصر الازدهار العربي القديم بشرفات ومدارج خارجية وقباب مدبّبة مهجورة كلها منذ سنين عديدة؛ أبوابها تتأرجح مائلة على المفاصل، وزجاج نوافذها مهشم، تجتاحها الأعشاب الطفيلية في كل مكان، وداخل رقع منفصلة تبدو أشجار سرو يانعة.

مدينة أشباح حقيقية، لطيفة محبّبة وسريالية ومخيفة قليلا أيضا بحكم الطابع العسكري القديم؛ لكنها خلفيّة رحبة رائعة.

الخشبة التي سيقام فوقها العرض بنيت فوق رحبة الألعاب الرياضية، من هناك يمنح الموقع مشهد حواجز من إسمنت مطلي بالأبيض والأسود كان العساكر يُدفعون للقفز فوقها دون شك. هناك أيضا سقالة ضخمة بحبال للتسلق وعقلة للتأرجح وسلال لكرة السلة؛ والكل على النمط الإسمنتي المزوق بالأبيض والأسود.

على إطار نافذة مكسورة الزجاج لإحدى بنايات القيادة العسكرية تعلق لوحة زيتية على ورق كرتون تجسد مشاهد معارك يرف العلم السوري فيها فوق دبابة مدمّرة عليها نجمة داود. لكن هذا المشهد لا يعدو كونه فكرة مشتهاة، فالواقع لم يشهد أبدا مثل هذا الانتصار على ما أعتقد.

​​نسمة مسائية رقيقة تهب الآن، ومغيب الشمس ذو لون ذهبي معتدل؛ فجأة نجد أنفسنا نجلس في الظلام على الركح، فليس هناك تيار كهربائي.

منذ ساعتين يجتهد عدد من الأعوان الفنّيين السوريين في معالجة عمود تيار كهربائي عال، يحاولون الحصول على كهرباء مباشرة من الخط الكهربائي الذي يعبر المنطقة، لكن دون جدوى. ساعة ونصف من الانتظار في الظلام.

أخيرا جاء مولّد كهربائي ومعه سندويتشات فلافل لذيذة للجميع. في الأثناء تحولت الحافلة إلى غرفة ملابس وبدا فعلا أن الأمور ستغدو على ما يرام. رايموند يروي لي أن هذه الثكنة قد تم بناؤها سنة 1910 من طرف الألمان لجيش الإمبراطورية العثمانية. ذلك هو ما يوضح سر المزيج المعماري السوري الفيلهلمي.

المولد الكهربائي يشتغل الآن والحفل قد غدا ممكنا، لكن المساء أصبح مشبعا بالريح، ولأول مرة خلال هذه الجولة رأيتني سعيدا بالجاكيتة الضرورية في لباسنا. لم يعد هناك وقت كاف للاعدادات الصوتية الأخيرة؛

الجمهور هناك جالس بانضباط مثير للدهشة منذ ساعة على مقاعد من البلاستيك في الريح، بينما شتوللي مهندس الصوت يغمره طوال كل هذا الوقت بأنغام من عناوين الديسكو الثمانينية، يكاد يقوض أركان مكبرات الصوت ويبدو أنه يجد متعة واضحة في عمله.

مع الأسف أنه لم يكن بإمكاننا رؤية الجمهور، فالكراسي قد تم تصفيفها بطريقة مدروسة على بعد 30 مترا من الخشبة، وبينهما بروجكتورات الإنارة التي كانت تبهر أعيننا. هكذا نقدم عرضنا دون إعدادات صوتية وفي الظلام تقريبا بينما ضارب الإيقاع في حالة صحية متدهورة نسبيا إضافة إلى ذلك، فاليوم أصيب هو وماتي عازف البوق، بينما أظل واحدا من آخر من لم يصب بعد باضطراب الأمعاء والمعدة.

حفل في ظروف صعبة إذن. لكن الجمهور مع ذلك راض، بل ويصفق مطالبا بزيادة، الأمر الذي لا يُعد متداولا في البلاد العربية عامة.

حلب-عمان

يوم سفر آخر. الطريق نفسها للعودة إلى دمشق، أتحدث مع مانفريد إيفل مدير معهد غوته حول سلّم النغمة الإثني عشرية، والفن الإفريقي. في معهد غوته ألقي نظرة سريعة على شبكة الأنترنت كي أعلم على سبيل الصدفة بأن المخابرات الإسرائيلية قد قامت في الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة من صباح هذا اليوم، بينما كنا في حلب، بعملية هنا في دمشق فجرت فيها أحد قادة حركة حماس، ثم أعلنت مباشرة بعدها عن تبنيها لتنفيذ تلك العملية.

شعرت للحظات بضيق موحش؛ الآن على الأقل قد غدت فكرة العنف والإرهاب أمرا قد مر بجانبنا مباشرة بل وكادت أن تلامسنا.

المحطة الرابعة: الأردن
عمان

واصلنا الرحلة باتجاه عمان. ساعة ونصف من الانتظار على الحدود السورية الأردنية، لكن كل شيء يجري بسهولة. في نقطة العبور الرئيسية تنتصب بين الممرات عدة طوابير من الطاولات العريضة مثبتة البناء في الأرض؛ هنا يتم التفتيش بصفة مكثفة والتثبت والمراقبة.

لكن ذلك لم يشملنا، قد يعود الأمر بكل تأكيد إلى سائق حافلتنا الذي يكون قد دس في يد العون المسؤول بعض أوراق نقدية كما كان يفعل دوما في نقاط العبور الأخرى التي مررنا بها إلى حد الآن.

داخل هذا الرواق المسقّف الذي تتم فيه المراقبة يسمع المرء جلبة زقزقة عصافير مثل تلك التي تنبعث من أقفاص الطيور الغريبة والمثيرة في حديقة للحيوانات. لكنني أخمّن، نظرا للوتيرة المنتطمة لتلك الأصوات، بأن الأمر يتعلق بتسجيل صوتي بهدف تهدئة الخواطر.

​​عمان مدينة حديثة العهد نسبيا، ذات طابع غربي أكثر من بيروت، متأنقة، بكثير من البنايات الحديثة وساحات المرور الدائرية، والأسعار فيها أغلى ست أضعاف مما هي عليه في دمشق. في الفندق نلتقي بمدير معهد غوته، رجل فكاهي، فرنكي حسب ما أخمّن، ومتزوج بأمرأة من إسطنبول ستتولى الطبخ لنا صباحا مساء؛ إنها وعود مغرية حقا.

يبدو أن رئيس المخابرات الأردنية هو الجار المباشر لمسكن مدير معهد غوتة وفي الجهة المقابلة من الشارع تسكن ابنة صدام حسين.

في اليوم التالي نخرج في رحلة بصحبة موظفة من معهد غوتة والسائق إلى قمة جبل نيبو. في هذا الموقع تنحدر الهضبة فجأة باتجاه سهل نهر الأردن، ويتمتع المرء بمنظر مدهش يمتد على نصف فلسطين، بينما على الشمال يلتمع سطح البحر الميت.

هناك أيضا في هذا الموقع خرابة دير تضم قبر النبي موسى الذي انتهى به التهوام لمدة أربعين سنة في الصحراء إلى الوقوف مع شعبه في هذا المكان ليرى من هناك أرض الميعاد ويموت مباشرة بعدها.

مساءً، استقبال خاص في بيت مدير معهد غوتة الذي يقطن في حي الدبلوماسيين، ببنايات حديثة متينة و فسيحة وسيارات دجيب تويوتا فاخرة وأخرى من نوع مرسيدس في الأماكن المخصصة للسيارات.

بعد كل منعطفين في هذا الحي هناك حاجز مرور، ثمة شرطة مدججون بالأسلحة يأمروننا بإلحاح أن لا نظل واقفين في مكاننا. الشقة من طراز حديث لكنها ذات طابع أردني طفيف، بأقواس وأعمدة على الشرفة، والكل لا يعطي انطباعا بشيء من التكلف المخادع، بل يبدو ذا اتساع محبب إلى النفس ومؤثثا بحسب ذوق رفيع بقطع من الموبيليا الشرقية القديمة.

بعد العودة إلى الفندق سنقيم حفلنا البيتي الخاص الأول في هذه الجولة؛ أنا وغيللرت ومارسيللوس وأفرا. الزملاء قد تزودوا في الطريق بكمية من علب بيرة "أمستل"، أما أنا فأظل مكتفيا بالفانتا والبيبسي، إذ لم يكن من الممكن الحصول على نبيذ، وفي الفندق لا شيء من ذلك إطلاقا.

أوهام جهاد

أطل علينا في الأثناء شاب من أعوان الحماية الأمنية للفندق، لأننا تركنا باب الغرفة مفتوحا. ذلك الشاب يدعى، من باب المصادفة، جهاد، وهو رجل متوثب الذهن متفتح ويروي أنواعا مختلفة من الحكايات.

ألمانيا بلد رائع بالنسبة له وإن كان لم يزها ولو مرة واحدة: هناك العمل، وكثير من المال وحياة سهلة، هكذا يتصور الأمور. وكان علينا أن نخلص ذهنه من تلك الأوهام. وعدنا ذلك الشاب بحضور حفلنا في يوم الغد قبل بداية حصة عمله في الفندق. عليه أن يؤدي حصة عمله الليلية لستة أيام في الأسبوع كي يتمكن من الإنفاق على دراسة أخيه.

في صبيحة اليوم التالي نزلت بعد الفطور مترجلا عبر الشارع الرئيسي باتجاه مركز المدينة، وهو ما يمثل الجزء الأكثر قدما في المدينة، لكن ذلك يعني هنا:

ما يعود إلى فترة الثلاثينات. في سوق الخضار تصدح أصوات الباعة بأغان يبدو أنها من الأغنيات الصغيرة التي يبتكرونها بأنفسهم للتغني ببضاعتهم دون كلل وبتكرار دائم، لكن بأصوات جميلة.

الحرارة والازدحام مع ذلك امتحان عسير بالنسبة إلي، وكنت بين الحين والحين أشعر بشيء من الدوخة الطفيفة، خاصة وأن هناك دوما زوايا تنبعث منها بين الحين والآخر دفعات من روائح غريبة؛ نوع من رائحة لحم خروف مطهي يبعث على الغثيان، لكن، لحظةً واحدة بعدها تفوح من جديد الروائح الطيبة للهيل والفواكه الطريّة.

أعود إلى المدينة العليا: أمام المحكمة وبنايات القنصليات يجلس كتبة عموميون إلى طاولات مخيمات صغيرة تحت مظلة واقية من الشمس، يساعدون النساء بمقابل مالي على قضاء شتى الحاجات الإدارية، يعبئون الاستمارات ويحررون المطالب بطريقة مهنية مختصة ويقدمون الاستشارة القانونية فوق الرصيف.

بعدها ننتقل بالحافلة إلى مكان العرض: حديقة الملك حسين(كل الأماكن العمومية تقريبا تحمل إسم الملك الراحل). مركب حدائق حديث العهد يحيط به جدار مسيّج ببوابات للدخول وحجرات للبوابين. كل شيء يبدو في طور البناء بعد: مجمل الأشجار والنباتات ماتزال صغيرة جدا؛ شيء من القفر ومن عالم ديزنيلاند لكن من دون ديزناي .

المسرح الهوائي الذي سنقدم فيه عرضنا ذو حجم هائل، وهو على أية حال تام البناء، يربض هناك تحت أشعة شمس العشية الحارقة ولا من بقعة ظل وحيدة هنا. لذلك انسحبنا إلى الأقبية التحتية حيث توجد غرفة الملابس. بعدها كان الحفل رائعا.

المحطة الخامسة: فلسطين/إسرائيل

جسر ألّلنبي(Allenby Bridge) هو المعبر الحدودي الرئيسي بين الأردن والضفة الغربية؛ جسر فوق نهر الأردن بنيت فوقه مخافر مراقبة حدودية. هذه النقطة الحدودية هي الموقع الذي يخلف انطباعا مثيرا أكثر من أي موقع آخر مما ممرت به في رحلتنا.

فالعبور وحده من العالم العربي إلى إسرائيل- وقد أصبح قطاع الضفة الغربية منذ عملية الإلحاق التي عرفها سنة 1967 عمليا جزء من تراب الدولة الإسرائيلية- يتطلب إعدادات دقيقة تمتد على مدى أشهر عديدة.

قبل السفر كان علينا أن نتقدم بطلب للحصول على جواز سفر ثان لكل واحد منا، ذلك أن الإسرائيليين لن يسمحوا بالدخول لأي شخص يحمل جوازه ختم بلاد عربية. والعكس كذلك أيضا بالمناسبة.

جندي إسرائيلي مكتنز من أولئك الذين يؤدون خدمتهم العسكرية يحدجني أنا وجوازي البكر بنظراته دون أن يتوقف عن مضغ علكة الشوينغوم، لكن بصرامة مع ذلك. ثم ها أنا وراء الحاجز وفوق أرض الميعاد.

نستقل مجددا حافلة معهد غوته لنواصل تحت 40 درجة من الحرارة الخارجية طريقنا في مشهد يذكر بأجواء ألمانيا الديمقراطية سابقا عبر ممرات محاطة بالأسلاك الشائكة وجواجز مرور، متوغلين في الضفة الغربية.

حافلات معهد غوته قد رسم على جانبيها وفوق سقفها العلم الألماني بطريقة واضحة تمكن من التعرف على هويتها بسهولة، لكن ذلك لم يكن بدافع شعور وطني، بل بهدف تفادي إمكانية أن يأخذنا أحد من مقاتلي منظمة حماس على أننا إسرائيليين، أو أن يعتقد المستوطنون اليهود بأننا عرب، وفي كلتا الحالتين يمكن أن يؤدي الأمر إلى حتفنا، إذ غالبا ما يتكرر قذف سيارات بقذائف صاروخية أو بطلقات الأسلحة الأوتوماتيكية.

رام الله/القدس

تبدو رام الله مثل سجن كبير في الهواء الطلق محاطة بأسيجة الأسلاك الشائكة وبالجدار العازل سيء الذكر الذي تم بناؤه مؤخرا من طرف الإسرائيليين، بحيث لا يكون بوسع المرء أن يدخل المدينة أو يغادرها إلا من نقطتين للمراقبة الحدودية. أحد هذين المعبرين هو معبر الدبلوماسيين ولا يسمح للفلسطينيين باستعماله.

​​التفتيشات هنا ليست بالصرامة التي عليها في نقطة العبور السابقة، لكن منظر الجنود الشبان الذين لا يتجاوز عمرهم 19 سنة بأسلحتهم الأوتوماتيكية وجاكيتات الحماية من الرصاص، وكذلك وقفتهم ذات الهيأة الرامبويّة، وإن كانت تشكل في الواقع مزيجا من عدم الثقة والعماء الذهني، فهي كافية كي تجعلني أدرك بوضوح بأن عالما آخر مختلفا تماما يبدأ هنا.

على هذا الجانب الآخر من الحدود علينا أيضا أن نستقل سيارة أجرة مشتركة، نعبر فوق الطريق السيار الداخلية للمدينة باتجاه باب دمشق، أو باب القدس كما يسمى بالعربية*.

وبالمناسبة، فإن المرء في هذه البلاد، لمجرد استعمال التسمية العربية أو اليهودية لهذا الباب يكون قد عبر عن موقفه كمناصر إما للجناح الصهيوني المتشدد أو على العكس من ذلك للشق الفلسطيني الذي ينادي بالجزء الشرقي من القدس عاصمة لفلسطين.

يمثل هذا الباب في كل الأحوال قلب ومدخل المدينة العتيقة التي تسكنها أغلبية عربية. وقد أوضح لنا أندرياس بأن القدس الشرقية هي الرقعة الحضرية الخاضعة لأكبر حراسة في العالم، وبالفعل بدأت أكتشف الآن كاميرا خفية في كل منعرج وكل زاوية بيت: الحراسة تبدو بالفعل تامة لا تتخللها ثغرات.

نقوم بزيارة إلى كنيسة القيامة(وتسمى أيضا كنيسة القبر) التي تضم داخلها عددا من المعالم الفرعية، كل منها تحت إدارة إحدى الكنائس المسيحية العالمية الكبرى.

قبر المسيح (الذي لم يرقد فيه أبدا) تديره الطائفة القبطية المصرية، وداخل قبو الكنيسة الأرثوذوكسية السورية يوجد الكهف الذي اختفى منه يسوع بعد انبعاثه، وفي الشق الأورثوذوكسي اليوناني يوجد الصليب الأصلي الذي عثر عليه في مزبلة أثرية، أما الكنيسة الكاثولويكية الرومانية فلها كنيستها الصغيرة الخاصة بها، وهكذا دواليك..

هكذا يكون لكل أحد ركنه المقدس الخاص به، أما الحجر الذي غسل فوقه جثمان المسيح فما زال يتم طلاؤه بالأدهان يوميا حتى يكون بإمكان الحجيج أن يضمخوا مناديلهم والخرق التي يجلبونها معهم بسائل الخلاص.

في هذا الموقع المقدس الأهم نغدو على مقربة من المكان المقدس الموالي: حائط المبكى. الطريق إلى هناك تمر عبر الأزقة العربية الشبيهة بالبازار. ابتداء من هنا سيكون اليهود الأورثوذوكس هم الذين سنلتقي بهم في طريقنا بأعداد أكثر فأكثر وبهيأة يبدو عليها الانزعاج بوضوح. بخطى استعراض عسكري حقيقية ودون الالتفات يمينا أو شمالا يمضون في طريقهم عبر ما يعتبرونه أرض أعداء.

الدخول إلى ساحة حائط المبكى لا يتم إلا بعد تفحص الوجوه والخضوع إلى المراقبة بأجهزة كشف المعادن.

هناك اكتظاظ غير عادي هنا، ويعود ذلك إلى احتفالات عيد الـ"صوكوت"(أو عيد الأكواخ) التي ستنطلق مساء هذا اليوم، وبهذه المناسبة يتوافد اليهود الأورثوذوكس من جميع أنحاء العالم على القدس للصلاة تحت ما تبقى من الحائط الغربي لمعبد سليمان الأسطوري.

يحيي الناس بعضهم البعض، يتوقفون لدردشات قصيرة منشرحين، بل ويؤدون حتى رقصات في شكل حلقات. الجميع متأنقون ونظيفون كما يكون الناس في يوم عيد، بينما النساء من المومنات المتزمتات محلوقات الشعر وعلى رؤوسهن البروكات.

على مسافة معينة من الحائط الحقيقي هناك حاجز آخر؛ بدءا من هنا لم يعد يحق لنا التقدم أكثر، لأننا لسنا من أصحاب العقيدة الحق وليست لدينا أغطية الرأس المناسبة. هنا أيضا تتم الصلاة بطريقة منفصلة؛ النساء إلى اليمين، والرجال إلى اليسار.

بعد هذه التخمة الدينية نقطع طريق العودة بالتاكسي المشترك ونحن متعبون. إنه الليل الآن وحوالي الساعة الواحدة تغلق بوابة العبور، وعندها لن يكون بوسع المرء لا الخروج ولا الدخول مجددا.

رام الله

في اليوم التالي تتواصل المهزلة في رام الله على نفس الوتيرة. لدي شعور بأنني الآن فعلا في قلب نزاع الشرق الأوسط. نتجه صباحا إلى قصر الثقافة وهو مسرح جديد كليا وجميل نسبيا يقع على طرف المدينة ويطل على رام الله.

اليابانيون هم الذين مولوا بناء هذا المركز؛ كل شيء لامع ومن نوعية ممتازة، صورة نقيضة لما يحيط به من الأحياء المتداعية من حوله.

في مدخل المدينة تستقبل الزائر صورة بحجم طبيعي لعرفات أمام قبة الصخرة. لعرفات أنف أفطس بشكل واضح، لكنه في ما عدا ذلك يبدو منبسط الأسارير، ودودا ومطمئنا. لا بد أن الأمور ليست دوما على هذه الصورة في الواقع.

إعدادات تقنية وصوتية أخيرة ثم بروفة نستعرض فيها بعض الأغاني مع مغنية فلسطينية إسمها ريم؛ امرأة فوق الأربعين بقليل وأم لثلاثة أطفال ولها أداء جميل جدا. ريم فلسطينية إسرائيلية تقيم في قرية من الضفة الغربية، ولا يحق لها في الحقيقة السفر إلى رام الله ، وهي هنا إذن في وضع غير قانوني بالرغم من أنه سبق لها أن غنت العديد من المرات في المدينة ودرّست بها أيضا.

​​في كل مرة كان عليها أن تلجأ إلى معهد غوته أو السفارة الألمانية الذين يمررونها خلسة وليس دون مخاطرة عبر بوابات عبور عديدة.

هنا تسري شائعة بأن دانيال بارنباوم نفسه ما كان بمستطاعه أن يغادر رام الله بعد حفل أقامه في المدينة إلا داخل الصندوق الخلفي لسيارة أحد الدبلوماسيين.

تروي لنا ريم قصصا من حياتها اليومية، ومرة أخرى أجدني أشعر بتأثر عميق. تقول ريم أن لا أحد في فلسطين يستطيع أن يفكر في السنة القادمة أو يضع برامج للمستقبل.

كل شيء يدور حول الصراع من أجل البقاء، والجزء الأكبر من حياة الناس ينفقونه في إعداد الترتيبات الضرورية لكيفية التنقل من مكان إلى مكان آخر، أو كيف يتمكن الواحد من تجاوز بوابات العبور من أجل إيصال أطفاله إلى المدرسة أو زيارة أب مريض وجد نفسه بين عشية وضحاها مجبرا على الإقامة خلف جدار بعلوّ عشرة أمتار.

عشية، هو ذا التلفزيون يعرض الوقائع: عساكر إسرائيليون يرسلون قذائف مدفعية على ساحة سوق عمومية في غزة ليقتلوا 24 شخصا نصفهم من الأطفال. وعلى قناة الجزيرة ليس هناك طوال العشية غير مشاهد أطفال قتلى وجرحى وآباء يبكون في حالة من الانهيار الكلي.

وأنا أتنقل بين القنوات التلفزيونية في الفندق كانت هناك مباشرة إلى جانب الجزيرة قناة RAI Uno الإيطالية التي تعرض مسابقة حول أكبر بيتزا في العالم مع فتيات جميلات ضاحكات يبدون جميعهن ممن ليس لهن شيء ذا بال في أدمغتهن. بعد هذه المشاهدات التلفزيونية أصبح بإمكاني أن أتفهم جيّدا ذلك النوع من الحقد الذي يكنه العالم العربي للغرب .

التعايش مع الموت

فكرنا أولا في إلغاء الحفل، لكننا قمنا به مع ذلك. وسيتولى فريد مدير معهد غوته في رام الله بتقديم كلمة قبل بداية العرض يتطرق فيها إلى أحداث غزة.

كان هناك تخوف من أنّ كثيرا من الناس لن يأتوا لحضور الحفل، إما بسبب التأثر بالأحداث أو بسبب الخوف. لكن الحضور كان كبيرا، وكانت واحدة من أروع وأجمل الحفلات وأكثرها تأثيرا في هذه الجولة.

أدخلنا تعديلا على برنامج العرض وبدأنا بتقديم مقطوعات ذات طابع تأملي، بينما شيء من التوتر ما يزال في داخلي، لأنني لا أدري كيف سيكون رد فعل الجمهور.

لكن ومنذ المقطوعة الأولى كان هناك انتباه ودفء لدى الحاضرين؛ يصفقون بإعجاب وكلما تقدم الحفل أكثر إلا وغدا الجوّ أفضل. قبيل انتهاء العرض أصبح هناك جو حفل حقيقي؛ رقص ومطالبة بزيادة إضافية.

الناس هنا يعبرون عن واضح امتنانهم لما قدمنا لهم من موسيقى، والعديد منهم يأتون للتعبير لنا عن شكرهم بعد نهاية الحفل.

هناك أيضا بعض الأجانب المقيمين في رام الله قد أسرهم أن يروا أحدا يتجرأ على المجيء إلى هنا، ويرجوننا أن نحدث الناس في بلادنا عن حقيقة ما عليه الأوضاع في الضفة الغربية وأن نتصدى للصور المشوهة التي تقدمها وسائل الإعلام.

​​ونحن نقف في الخارج أمام مدخل الفنانين بعد انتهاء الحفل وننظر إلى المدينة من تحتنا، كانت تسمع طلقات تتردد في الفضاء بين الحين والآخر. أندرياس يروي لنا أنه من المعتاد بعد مثل هذه الأحداث مما جرى اليوم في غزة أن يعلن بصفة غير رسمية عن حداد إجباري وإضراب عام غير طوعي.

مجموعات من المناضلين السريين من حماس وكتائب القدس يتجولون مقنعين عبر الشوارع، يطلقون البارود في الهواء لترهيب الناس وإجبار أصحاب المحلات على غلق متاجرهم، يدفعون بالناس للعودة إلى البيوت كي لا يكون هناك من أحد يجد متعة ما في مثل هذا اليوم.

وبالفعل قد شملنا الأمر نحن أيضا: ذهبنا جميعنا معا إلى مطعم حديقة جميل، جلسنا هناك وأردنا أن نطلب شيئا عندما برز عدد من الهيآت المقنعة والمسلحة، راحوا يضغطون على النادلين ويرغمونهم على إسكات الموسيقى وإطفاء لمبات الأضواء الملوّنة.

الكابوس اليومي

على إثر ذلك مباشرة بعض طلقات نارية تمزق الهواء بالقرب منا طلقات تدوي بحدة وبصوت كريه. ثم ينتهى المشهد الكابوسي، لكن دون أن يفشل في ترك أثره: انكسرت وتيرة الجو المرح، وأغلب الضيوف ينهضون الآن من أماكنهم في الحديقة وينصرفون إلى بيوتهم بهدوء وانضباط.

أشعر بالخوف لبضعة لحظات فالوضع متوتر ولا يساعد على الشعور بالارتياح. لكن يأتي النادلون ليطمئنوننا: "Dont worry, everything okay!" (لا داعي للانزعاج، كل شيء على مايرام!)
يتبدد الذعر شيئا فشيئا، وتعود الحياة الطبيعية إلى مجراها، لكن المطعم يفرغ من الزوار بسرعة.

رام الله-تل أبيب

نغادر رام الله ونعبر في حافلتين عبر ممر الدبلوماسيين، ثم مجددا عبر الضفة الغربية باتجاه تل أبيب. معنا ضيف في الحافلة وهو شاب فلسطيني من الناصرة ما كان يحق له أن يكون في رام الله هو أيضا، سنحاول بفضل صفتنا الدبلوماسية أن نمرره عبر بوابة العبور إلى الضفة الغربية.

كل شيء قد تم على ما يرام بالرغم أن زميلنا كان لحظة مراقبة الجوازات يرتعش مثل قشة في الريح وقد غدا شاحبا وعليه علامات مجاهدة واضحة من أجل الحفاظ على تماسكه.

تل أبيب.. الصدمة الحضارية

تل أبيب تبدو بعد رام لله صدمة حضارية كلية، مثل مدينة أوروبية كبرى، براقة؛ مدينة متعة من طراز راق على شاطئ البحر، وبموكب استعراضي دائم للنهود.

الفندق الذي نقيم فيه له موقع مركزي ممتاز على بعد عشر دقائق من الشاطئ، وهو في الأصل قاعة سينما قديمة من طراز "باوهاوس" المعماري. توجد هنا أيضا عمارات كثيرة من تلك الحقبة ومن فترة الخمسينات ما تزال في حالة جيدة وجذابة إلى أبعد الحدود من حيث طرازها المعماري. أقوم بجولة أولى عبر المدينة.

​خلال الثلاثين دقيقة الأولى كنت متوترا جدا، لا أنفك عن تفحص المكان من حولي: هل أستطيع التمشي هنا داخل هذه الكتلة البشرية؟ أن لا أظل متوقفا في محطة الباصات؟ هل يوجد أشخاص مشبوهون هنا؟ فكرة أنه من الممكن في أية لحظة أن يفجر أحدهم نفسه هنا حاضرة حضورا كليا، لكنها غائمة مع ذلك، ذلك أنني لا أستطيع أن أحدد كيف وأين ومتى.

البارانويا الإسرائيلية الدائمة قد تسربت إلي قليلا في البداية، لكنها سرعان ما شرعت في التراجع. صحيح أنني عشت عودتي إلى الفندق سالما في أول مرة مثل نجاح وظفر، لكن في الجولة الثانية كان ذلك الأمر قد امحى تقريبا.

ومن المؤكد أن الناس الذين يعيشون هنا قد مروا بنفس التجربة: على الإنسان فقط أن يعيش، وإذا ما ظل الواحد لا يفكر طوال الوقت إلا في القنابل، فإنه لن يعود بالإمكان القيام بأي شيء بسبب الشلل الذي يحدثه هذا الأمر.

ومع ذلك فإن التهديد يظل موجودا على الدوام كإمكانية، وكتوتر داخلي خفيّ لا يجعل الحياة اليومية تجري ببساطة وتلقائية أو دون يقظة متحفزة.

في اليوم التالي تمتعت على الشاطئ، مرة أخرى، لساعتين: سباحة، استلقاء في الشمس ونعاس. المكان تام التجهيزات هنا في الواقع كما هو الشأن في كل فندق شاطئي متوسطي أيضا.

عشيةً إنتقلنا إلى مكان العروض؛ مركز ثقافي حديث البناء شبيه نسبيا بقاعة عروض مسرحية متوسطة الحجم وجميلة.

على غير عادتنا ذهبنا لتناول العشاء قبل العرض، وهو ما اتضح كخطأ، أولا لأن الأكل كان رديئا(الوجبة الرئيسية منه على الأقل)، ثم أنني كنت طوال الحفل أشعر بثقل في المعدة- ومن حين لآخر تأخذني رغبة في التقيؤ.

كان من المفترض أن لا أغفل عن ذلك. لكن الحفل كان بعدها في مستوى معقول جدا، لكن ليس رائعا كما ينبغي. كان علينا أن نسأل أولا إن كان يحق لنا أن نفتتح الحفل بأداء مقطوعة المارش العسكرية ألالمانية "Hoch Heidecksburg"، وعرفنا بأن ليس في ذلك من إشكال.

أندرياس وسميرة قد تنقلا مع مجموعة من الأصدقاء من الضفة الغربية إلى هنا كمحبّين لفرقتنا، وهو ما جعلني أشعر بالتأثر حقا. أما رئيس معهد غوته بتل أبيب فقد رأيناه لمدة ثلاثين ثانية بالضبط، ثم اختفى بعدها مجددا.

تل أبيب -القاهرة

يوم سفر آخر. نتجه إلى مطار بن غوريون، المطار المدني الدولي الوحيد في إسرائيل بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي مطار رام الله الذي تم بناؤه باعتمادات مالية من الإتحاد الأوروبي. تقنيات الإجراءات الأمنية على أشدها هنا. ومنذ الانطلاق باتجاه المطار كان هناك ممر عبور ومراقبة.

على النحو التالي ستكون إجراءات التسجيل: في البدء بروز فيلق من أعوان الأمن يتوزعون على المسافرين. أغلب الأعوان من الشباب؛ فتيات في الأكثرية يرتدين بزات لا تتناسب وأجسامهن. القصيرات منهن يحكمن على أسفل أحذيتهنّ الرياضية نعالا من الكريب شبيهة بالنعال الطبية كي يبدون أطول قامة ويضمنّ شيئا من المهابة.

بعدها يخضع المسافر إلى استجواب بشتى أنواع الأسئلة عن البلاد الأصلية والغرض من السفر، واسم سائق الحافلة وشركة النقل التابعة إليها وما هو رأيكم في إسرائيل...إلخ، وبعد اجتياز الامتحان بنجاح يوضع ملصّق أخضر على أمتعة المسافر.

ثم يأتي تمرير الأمتعة على الأشعة الكاشفة. وبطبيعة الحال كان مرافقانا الإيرانيان(ضارب الإيقاع والمغنية) عنصرين مشتبهين بصفة خاصة وسيخضعان إلى تفتيش دقيق. كما أخذت ميكروفونات أفرا إلى فحص خاص، وهما على أية حال يبدوان بذلك السلك المحكم على كل منهما بهيأة الفتيل المفجّر. في ختام هذه العملية هناك ملصّق آخر أصفر هذه المرة.

بعدها يأتي تسجيل العبور مع استجواب آخر عند الاقتضاء، وأخيرا فحص كشفي آخر للمسافر وأمتعة اليد. وكل شيء يتم بطريقة احترافية عالية ومن طرف أعوان من العنصر النسائي بالأساس.
مرت الرحلة بعدها دون صعوبات ولم تدم سوى ساعة واحدة.

المحطة السادسة: مصر

​​القاهرة مدينة هائلة الحجم، وهو ما يتراءى للقادم منذ أول وهلة. طرق سيارة تمر وسط بحر من الأحياء السكنية، المساجد بأحجام شبيهة بالقصور، العديد من الجدران المزوقة بالزخارف العربية تحيط بالمركبات البنائية الكبيرة. في الوقت نفسه، وعلى مستوى طابق من تحت الطريق السيارة، يعج الفضاء بالمحلات العربية الصغيرة والبازارات وعدد من متاجر مفتوحة ومضاءة، وأناس كثيرون في الشوارع في ساعة متأخرة من الليل.

على جانبي الطريق يوجد عدد هائل، بصفة مفاجئة بالنسبة لبلاد عربية، من لافتات إشهار ضخمة ومضاءة منضدة على مستويات مختلفة من العلو على اليمين وعلى الشمال. ما يجلب الانتباه أيضا هو وجود عدد من الكنائس القبطية مبنية على الطراز الروماني، لكنها أضخم بقليل وأقل قدما على الخصوص، وبصلبان من النيون ثلاثية الأبعاد وذات هيأة مصطنعة مثبتة فوق السطوح.

نعبر النيل عدة مرات وقد غدا عريضا جدا في هذا الموقع حيث فندقنا الذي يقع فوق جزيرة تحمل إسما جميلا: الزمالك.

القاهرة - الإسكندرية

الساعة الحادية عشر؛ موعد الإنطلاق بالحافلة إلى الإسكندرية. في أماكن مختلفة من القاهرة ينضم إلينا عناصر من فرقة محمد منير. يجلس هؤلاء في مؤخرة الحافلة ، بينما نجلس نحن في المقدمة، وأول محادثة وتواصل كانت في محطة الاستراحة على الطريق السيارة. ثلاث ساعات تقريبا كانت مدة الرحلة.

فندقنا الجديد يقع على مسافة أربعين دقيقة من الإسكندرية على حافة طريق فرعية متربة وبين مصانع كبيرة لتكرير النفط ومنطقة عسكرية ممنوعة. الفندق هنا أيضا شبيه بواحة؛ نوع من محطة Club-Med على طراز فضاء لصيد الأدغال الإفريقية.

والفندق يسمى بما يناسب هيأته "أفريكانا" مكان ملائم تماما للاسترخاء: شيء من السباحة في المسبح الداخلي في البداية، ثم مشروبات وأكل ونرجيلة يقدمها لك أعوان الخدمة على كرسيك الهزاز في الشمس.

ابتداء من الساعة السادسة مساء ستكون لنا بروفة مشتركة. لكن، بحسب التوقيت المصري لن تبدأ البروفة إلا على الساعة السابعة على أية حال، وكل شيء من أوله إلى آخره فوضى عارمة. نقوم بالبروفة في الـPub ببار القبو التابع للفندق. بعد مضي وقت قليل كان هناك خمسون شخصا داخل هذا الفضاء الضيق.

لا بد من الانقسام إلى مجموعات صغيرة من أجل القيام بالبروفة، وأن يشرع الواحد في العزف دون الانتباه إلى الهدير العام للأصوت. في لحظة ما يشرع محمد منير في الغناء أيضا، وفجأة تشع الجلسة بطاقة جديدة.

إنه فعلا مدهش، وفي ماعدا ذلك فهو يبدو بهيأة فوضوي مصري تحت وطأة مخدرات خفيفة، لكن حالما يشرع في الغناء فإنه يغدو حاضرا بكليته، مشعا بوجهه كليا مثل طفل، ولا يكاد يتوقف عن الإرسال؛ أي بكلمة واحدة حاضرا مهيبا. يا له من تحوّل!

ذلك بالضبط هو ما يميز السوبرستار عن بقية المطربين المصريين العديدين من أصحاب الأغاني الرائجة.

تتواصل البروفة من بعد على نفس المنوال، وكل شيء يتمطط ويطول، لكنه ينتهي بأن يأخذ مجراه في لحظة ما.

بعد مضي ساعة يبرز عازف البوق لفرقة منير، رجل قصير القامة بنصف صلعة ويتكلم الألمانية. إنه شخص فكاهي، كلاسيكي يعزف لحن C-Trompete وقد درس الموسيقى في فرانكفورت.

وهو الآن مدرس في المعهد الموسيقي بالقاهرة ويقود فرقة نحاسية إلى جانب القيام بأعمال ستوديوهات متنوعة. بسرعة نجد أنفسنا منخرطين في نقاش مهني اختصاصي حول المباسم والأبواق، وبصفة استثنائية وجدتني أجد متعة في مثل هذا النقاش.

مدينة الإسكندرية

على الساعة الثانية عشر تنطلق بنا الحافلة إلى الإسكندرية؛ معالم رائعة بالنسبة لمن يهمه الأمر. نقوم أولا بزيارة للقلعة. في موقع البرج الرئيسي كان ينتصب في مامضى تمثال فرعون الإسكندرية وهو إحدى العجائب السبعة في العالم.

​​ثم جاء دور البازار، مع المجموعة في البداية، إلا المسألة سرعان ما تبدو لي تافهة فأنحرف في أول شارع جانبي. كل شيء هنا في مظهر لائق جدا؛ إنه حي متاجر الجملة للمواد المكتبيّة. بعد بضعة منعرجات واجتياز بعض شوارع أجد نفسي في الحي التجاري للمواد الغذائية.

هنا يوجد البازار الضخم الحقيقي، ازدحام كبير من جديد، وعلى الدوام هناك حركة مرور معطلة بسبب عربة مجرورة بحمار أو شاحنة صغيرة بصدد شحن أو إنزال شيء ما. على المرء إذن أن يتسلل عبر حيّز من عشر سنتمترات ما بين الحمار وكومة خضارعلى شكل هرم.

هنا يوجد كل ما يمكن أن يتصوره المرء من المواد الغذائية؛ الشهي منها والمنفّر. للتجار أيضا أجران بها جمر فحم لا ينقطعون عن تأجيج أدخنة البخور داخلها، من أجل طرد الذباب على ما يبدو.

شوارع بأكملها تعج بحيوانات حيّة، وبصفة خاصة أطيار من كل نوع داخل أقفاص من الخشب من صنع شخصي. قوقأة واضطراب أجنحة وروائح ثقيلة، ديكة رومية تتجول هنا وهناك دون قيود، حجل، غنم وماعز، وأخيرا واجهة تعلق عليها رؤوس أبقار مقطوعة ولا شيء غيرها.

في زقاق القصابين تتجمع برك من الدماء فوق الطريق. رجل ضخم الجثة يطهي كوارع بقر داخل مرجل كبير، يجرد واحدة منها حتى العظم.

بعد فترة من الزمن قضيتها متسكعا داخل هذا العالم الموازي وجدت نفسي أدخل في حالة من الذهول والغيبوبة. إلا أنني في لحظة ما، وأنا داخل هذه الأجواء المتخمة أشعر باضطراب معويّ. تتعكّر حالتي وتغشاني الدوخة، وأحس بحاجة ملحة إلى دخول الحمام. لم يتبق لدي إذن سوى أن أغادر هذا المكان وأستقل سيارة تاكسي عائدا إلى مكان العرض.

وقعت بطبيعة الحال على سائق تاكسي لا يعرف كلمة واحدة من الإنكليزية ولا كانت عبارة "Bibliotheca Alexandrina" لتعني له شيئا. لكنه سينطلق بنا مع ذلك سائرا بكل بساطة حسب مشيئة الصدف. وبعد بعض محاولات تواصل إضافية فاشلة يصعد معنا أخيرا سيد يرتدي بذلة كان لحسن الحظ يجيد الإنكليزية كي يوضح للسائق المكان الذي أريد الذهاب إليه.

لم يكن عرضنا داخل بناية المكتبة نفسها، بل داخل قاعة محاضرات محاذية لها؛ قاعة كبيرة بمقاعد مريحة جدا. كان علينا أن نبدأ الحفل بينما الناس مازالوا يبحثون عن أماكن جلوسهم، فعملية الدخول لم تتم بعد، لكن علينا أن لا ننتظر أكثر لأسباب تقنية.

ومع ذلك يبدأ الجمهور بالتصفيق مع مقطوعة "Hochheidecksburg" ، هناك تقبل واضح لفرقتنا من طرف الحاضرين الذين سيظلون جمهورا ممتازا حتى نهاية الستين دقيقة لعرضنا.

بعدها تغيير سريع للديكور. يبدأ محمد منير بطريقة الإخراج الكلاسيكية لديه: أولا ضاربوا الإيقاع، ثم الجهير، فالقيثارة فالكيبورد(أرغن إلكتروني صغير)؛ الواحد تلو الآخر يلتحق كل عنصر بالمعزوفة.

لكن حالما يظهر منير على الخشبة تنطلق زوبعة من صيحات الإعجاب داخل الجمهور. الجميع يصيح، وعاصفة من التصفيق والتهليل وقوفا لمجرد صعوده إلى خشبة الاستعراض. ثم يتواصل الجو على هذا النحو لثمانين دقيقة من بعدها؛ كل المقطوعات الناجحة تقدم هنا بينما الجمهور يرافق الفرقة بالغناء. المقطوعات الثلاث الأخيرة نقدمها معا؛ تصفيق هائل ، تآخ. رائع كان كل شيء.

القاهرة

نعود إلى القاهرة بالحافلة صباحا. بعد الانتهاء من إجراءات التسجيل مجددا بالفندق أذهب بصحبة أفرا وماتي وكريستيان إلى شارع محلات الآلات الموسيقية. هناك الكثير من الدكاكين الصغيرة يعرض أغلبها طبولا ودربكات وآلات عود و قانون.

نقع في البداية على مصنع صغير لآلات العود. الدكان لا يتجاوز حجمه كشكا صغيرا بأرضية من الألواح وسقف يرتفع إلى علو مترين ونصف بما يمكّن من إحداث طابق علوي يُصعد إليه بسلم صغير. هناك يجلس النجار الذي يصنع هياكل الأعواد، وعلى الجدار تعلق القطع الجاهزة بمختلف أنواع النقوش والتزيينات.

إلى المكتب يجلس المعلّم وشيخ كان عازف عود بارع، يدخنان ويتحادثان. نلج المحل، نسلم وندردش قليلا. ثم يدعونا المعلم أن نلقي نظرة على كل ما نريد أن نراه.

نذهب بعدها إلى جولة صغيرة في خان الخليلي، لكننا نجد أنفسنا في قلب المنطقة السياحية ولم يعد لدينا متسع من الوقت، لذلك نقرر العودة بسرعة في سيارة تاكسي إلى الفندق. التنقلات بالتاكسي عبارة عن مغامرة في حد ذاتها كل مرة: سرعة، ابتكار وتبويق لا يتوقف داخل الزحام الجنوني. مغامرة لا ينصح بها من ليس لديه أعصاب متينة.

القاهرة

عشية تأتي الحافلة لتأخذنا، وفي الموعد المضبوط بصفة استثنائية هذه المرة. سيكون العرض هذه المرة في ملعب لكرة اليد يقع في إحدى ضواحي القاهرة. الملعب طريف من الناحية الهندسية لبنائه لأنه لا يحتوي على مدارج للمتفرجين إلا في جانب واحد من أرضية اللعب، وهو بالتالي ذي شكل نصف دائري. أما الفضاء الداخلي فمفروش كليا بسجاجيد فارسية متطابقة، كما لو كنا في جامع.

وبالفعل، فمع غروب الشمس يبدأ بعض التقنيين وأعوان الحراسة في الصلاة ساجدين راكعين في حركات متناسقة تماما. هذه الطريقة العمومية العتيقة والبديهية للصلاة في الوقت ذاته وفي أي مكان ومهما كانت الظروف لم تعد تبدو لي غريبة البتة مع مرور الوقت.

تعودت على صوت المؤذن أيضا وصرت أبتهج لذلك الصوت، فهو طريقة جيدة لإضفاء نسق مرتب لمسار الحياة اليومية، كما أنه وقفة قصيرة للتذكير بأنه يمكن أن يكون هناك بعد روحاني للحياة اليومية في ما وراء المعاملات المادية وقضاء المآرب الشخصية. سيكون جيدا لو يدرج الآذان في ألمانيا أيضا، للجميع، وخمس مرات في اليوم.

قبل وصول محمد منير تم تفتيش كل حجرات الملابس وأخضاعها لتفقد الكلاب المدربة على تشمم المتفجرات. كما أن احتياطي القوات الأمنية مرتفع اليوم، ذلك أن الزميل منير قد غدا بطبيعة الحال أكثر احتياطا بعد محاولة اغتيال تعرض لها قبل فترة.

ثم جاء الحفل رائعا؛ خاتمة جيدة لهذه الجولة. 8000 متفرجا حاضرون هنا؛ شباب في مجملهم. ومنذ انطلاق مجموعة Schäl Sick Brass Band التي افتتحت الحفل تنفجر مباشرة وتيرة حماس الحاضرين وينطلقون بالهتاف، يرقصون ويلوحون بأذرعهم عاليا.

ومع دخول منير تتصاعد الوتيرة أكثر لتتحول إلى هيجان منفلت من كل القيود وهستيريا جماعية، كما يمكن للمرء أن يتصور في حفل من حفلات البيتلز.

مرة أخرى نقدم المقطوعات الثلاث الأخيرة معا؛ الجميع سعيدون، وليست هناك زيادة إضافية.

المحطة الأخيرة: القاهرة - فرنكفورت

لم تأت الحافلة المحجوزة من أجل الذهاب إلى المطار، وكان علينا إذن أن نستقل أربع سيارات أجرة ونستأجر عربة خاصة للأمتعة. و مع ذلك كل شيء يتم في الموعد المحدد. في المطار كان علينا أن ندفع مبلغ 1015 أويرو كمعلوم على زيادة الوزن، وفي ما عدا ذلك ستكون الرحلة سهلة والأكل جيدا مع نبيذ أحمر وشريط فيديو لروبي فيليامس.

قبل الوصول بقليل يقذفني ماتّي بمخدته ممازحا، قأذفه بدوري بالمخدة بسرعة وبقوة ساحقة ، وبسرعة تتحولت اللعبة إلى معركة مخدّات عنيفة داخل طائرة الأيربوس، وتنتقل المعركة بسرعة من مجموعة فرقتنا إلى مجموعة نادي فرنسي للكرة الحديدية:

قهقهات مكركرة ولحظات قصيرة من الفوضى ونحن على أبواب الهبوط. بعد بضعة دقائق ينهى رئيس نادي الكرة الجديدية اللعبة الطريفة بهذه الكلمات: "C’est fini ,discipline … ( انتهى، انضباط الآن!). هذه القدرة على المراقبة الذاتية والتحفظ في الشطط هي ما جعل فرنسا الأمة العظمى(Grande Nation) من بين جميع الشعوب على ما أعتقد. تخمد معركة المخدات، ثم هبوط سلس ناعم.

بقلم أودو مول
ترجمة علي مصباح

قامت فرقة شيل سيك براس باند بجولة في الشرق الأوسط بدعوة من معهد غوته في خريف 2004
وقام عضو الفرقة أودو مول بكتابة يومياته أثناء هذه الجولة الموسيقية. وتقرؤون هنا النسخة المختصرة من اليوميات.

*ملاحظة: يبدو أن الكاتب قد اختلطت عليه هنا مسألة التسميات؛ إذ أن باب دمشق هو التسمية الحقيقية لهذا الباب، وهكذا ظل يسميه العرب إلى الآن، بينما الإسم الجديد الذي أعطاه إياه الإسرائيليون هو: باب العامود (أو ما يعرف لدى الغربيين بباب هيرودوتس)، وذلك بعد حفريات سنة 1936 التي اكتشفت فيها أعمدة معبد سليمان كما يدعي الإسرائيليون. وليس هناك في القدس إذن باب يسمى "باب القدس" (المترجم)

قنطرة

رحلات عبر القرون والتاريخ
تتناول قنطرة في السلسة التالية رحلات قام بها سكان الغرب والشرق خلال قرون مختلفة بغية استكشاف الآخر ومعرفته.