مقابلة مع محمد ربيع: «السخرية هي الوسيلة الوحيدة لمقاومة الدولة المصرية»

بدأ الروائي المصري محمد ربيع الكتابة في مواقع المدوّنات الإلكترونية خلال العقد الأوّل من القرن الحالي، حاله في ذلك حال الكثيرين من أبناء جيله. التحق بعدها بورشة كتابةٍ أنجز في نهايتها روايته الأولى «كوكب عنبر»، التي حصلت عام 2011 على جائزة ساويرس الثقافية. لكن شهرته الحقيقية جاءت بعد وصول روايته الثالثة «عطارد» إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2016، وهي رواية ديستوبيا تتوقع مصيرًا كابوسيًا للعاصمة المصرية باحتلالها وانقسامها إلى قاهرتين؛ شرقية وغربية.

لكن بين الرواية الأولى والرواية الثالثة التي نالت الكثير من الاهتمام النقدي والانتشار الجماهيري، كان هناك رواية ثانية لم تحظَ بالاهتمام الكافي رغم نضوجها سواء في بنيتها السردية أو في مضمونها، وهي «عام التنين».

في هذه المقابلة سنعود إلى «عام التنين» وعوالمها وظروف كتابتها، لنتحدّث مع ربيع عن أسلوبه في الكتابة، والسوداوية الممزوجة بالسخرية التي تغلب على أعماله، مرورًا بآليات اشتغاله على نصّه الروائي وارتباط ذلك بعمله محرّرًا أدبيًا، وصولًا إلى موقفه من النظام المصري الحالي والدولة المصرية عبر العصور.

أعتقد أن رواية «عطارد» نالت حقها من النقد والمناقشة، بينما لم تأخذ «عام التنين» الاهتمام الكافي، مع أنني شخصيًا أراها أفضل، ومساحة «اللعب» فيها كبيرة جدًّا، أكبر بكثير من «عطارد» و«كوكب عنبر»، وبالتالي هي أكثر إمتاعًا. لذا أرغب بالتركيز عليها أكثر، خاصة مع صدور طبعة جديدة منها مؤخّرًا. لماذا لم تحصل هذه الرواية، برأيك، على الاهتمام الكافي؟

الأكيد أنّ نجاح «عطارد» أتى بعد البوكر، ويبدو أن مساحة اللعب والحكايات المتضافرة في «عام التنين» لم تمتع باقي القراء. أنا أراها دائمًا رواية مظلومة كثيرًا، هناك أسباب معلومة لا أظن أنّ هناك فائدة من الكلام عنها الآن، وهناك أسباب لا أعلمها.

لكن يجب أن أقول أيضًا أن لا أحد يعرف ما الرواية التي ستنتشر وما الرواية التي ستموت، الناشر والمؤلف وصاحب المكتبة، لا يعلم أيّ منهم ذلك، ولا يساهم أيّ منهم في «تحريك» الرواية، لكن بالطبع يحاول الجميع الاجتهاد والعمل بجدية وينتظر الحظ طوال الوقت.

بشكل عام ستجد أنّ الروايات الجيدة تنتشر بين القراء، وإن اختلف مقدار الانتشار من رواية إلى أخرى. إذا لم تنتشر رواية جيّدة فربما هنالك قصور في عمل محرّر الناشر، أو أنّ الناشر لم يبذل مجهودًا لتوزيع الرواية، أو أنّ هنالك أخطاء ومشاكل في الطباعة.

– «عام التنين» رؤيويّة بمعنىً ما. بدأتَ بكتابتها قبل الثورة لكنّها نُشرت عام 2012، مع ذلك نصل في النهاية إلى تنصيب الرئيس السابق حسني مبارك ملكًا على مصر. دعنا نبدأ من هنا، رغم الأمل الذي كان مسيطرًا على الجميع -حينها- بقيت أنت متشائمًا (أو عقلانيًا؟). لماذا حافظت على وجهة النظر هذه؟ أو كيف استطعت أن تبقى محافظًا عليها رغم التغيّر الهائل الذي حدث؟

كان ذلك مجرد إحساس، كنت أقول إنّ مبارك لن يُحاكَم، وعندما أُعلن عن محاكمته قلت إنّه لن يدخل القفص، وعندما دخل القفص قلت إنّه لن يُدان، ويبدو أنّني كنت أخطئ في كل مرة، لكنّ المرة الأخيرة كانت صائبة.

المضحك أنّ الإعلام المصري تعامل مع موضوع مبارك بذكاء يُحسد عليه. الطريقة نفسها من الصعب الكلام عنها، لكنّ رد فعل الناس تدرّج من الغضب الشديد على مبارك إلى التعاطف الهائل معه في نهاية محاكمته الطويلة. الإعلام المصري كان مساهمًا منذ البداية في إسقاط الثورة، كما يساهم الآن بجدارة في دعم الدولة الشمولية الحالية.

في النهاية، مبارك وأسرته يعيشون عيشة هانئة، ولم يمسّ أحدٌ ثروتَه وأمواله، بينما من ثاروا عليه قابعون في السجون أو هاربون خارج البلد أو يائسون تمامًا من الوضع.

تتمحور الرواية حول علاقة حكّام مصر بالشعب المصري. وتعود في ذلك إلى زمن الفراعنة، مرورًا بالفاطميين ومن ثمّ محمد علي وصولًا إلى عبد الناصر والسادات، وانتهاءً بمبارك، وينعكس الجهد البحثي الذي قمتَ به في كثرة الخيوط المتشابكة في الرواية. ألم يشعرك ذلك بالخوف من أن يفلت السرد منك، كيف تمكنت من ضبط هذه الأحداث كلها وتوليفها لتظهر بهذا التناغم؟

«عام التنين» جاءت بعد ورشة «كوكب عنبر»، وحينها ظهر سؤال من الأصدقاء إن كنت سأتمكن من كتابة رواية بعيدًا عن ورشة كتابة، كنت قلقا بخصوص الإجابة على ذلك السؤال، والأهم أني كنت أفكر كثيرًا في الشكل الأمثل لإيصال كل ما أود قوله إلى القارئ.

اختيار هذه الطريقة لم يكن وليد الصدفة بل كان اختيارًا متعمدًا، وفي أثناء عملية الكتابة كنت أقارن بين ما أكتبه وبين «كوكب عنبر» وظهر لي أني كتبت نصًّا بالغ السذاجة في الورشة.

أثناء كتابة «عام التنين» كنت أفكر أنّ الرواية تشبه قطعة قماش كبيرة، نسيجٌ مكون من خيوط عديدة، قد تكون الخيوط من أنواع وألوان متعددة، لكن المهم أن يكون هنالك نظام يحكم ترتيب هذه الخيوط. كنت حريصًا على إيجاد نظام ثابت، ووقعت في الخطأ مرتين أو ربما مرة واحدة قرب نهاية الرواية.

– في الصفحة الأخيرة تشكر الأشخاص الذين استفدت من أعمالهم كمصادر لروايتك؛ سيد قطب وخالد فهمي، شريف يونس.. إلخ. ألا تعتقد أنّه من غير المعتاد أن يكشف الكاتب مصادره، أو أنّ ذلك قد يضرّ بعض الشيء باللعبة الفنية؟ أليس من الأفضل ترك عملية تحليل النص وتفكيكه للقراء أو الأكاديميين؟

ذكر هؤلاء كان تقديرًا لأعمالهم وكتبهم، الرواية مبنية بالكامل على فكرة وتحليل شريف يونس في كتابه «الزحف المقدس» ولا يمكن نشرها دون الإشارة إليه. ربّما لم يكن هذا الفعل معتادًا في السابق، لكنّي أظن أن من العدالة أن أذكر اسمه.

ستندهش عندما تقرأ تحليلات النقاد، هناك تحليلات تكون غير موفقة بالمرة، بل مؤسفة. الهوى السياسي والرأي الشخصي يتدخلان ويقلبان كلّ شيء رأسًا على عقب. وعلى الجانب الآخر هناك أيضًا المحلل الذكي الذي يستطيع تمييز اختيارات وأفعال عقل الكاتب الباطن في النص، ويستنتج روابط بين النص وبين أفكار محددة قد لا يعلم الكاتب أنّها موجودة في عقله أصلًا.

هناك جانب ساخر في «عام التنين»، ذكّرني بالأنِمي الياباني (رسوم متحركة) تحديدًا، مثلًا عندما يتقيّأ نعيم (بطل الرواية) الأشخاصَ من حياته، أو مشهد الجنازة في البداية. أنت تسخر طوال الوقت في الرواية، سخرية تبدو كئيبة في بعض الأحيان وكرتونية في أحيانٍ أخرى، هل ترى أن السخرية حاجة ضرورية للنص الروائي؟

السخرية هي الوسيلة الوحيدة لمقاومة الدولة المصرية، هي دولة ظالمة على مر التاريخ، تحتكر أدوات القمع والسلطة والقضاء والتعليم وحتى التاريخ نفسه، الأمر الذي يجعل مقاومتها لا تنجح إلا بالعنف والثورة، وبالطبع تحتفظ الدولة بحق اتهام من يواجهها بالخيانة. نحن نتعامل مع خصم هو نفسه الحكم، ويسيطر بشكل كامل على الجمهور، ما فرص الانتصار على خصم كهذا؟

هدف السخرية بشكل عام هو الرغبة في تغيير الآخر، لكنّ الدولة المصرية لن تتغيّر بالسخرية، هي لم تتغير بالعنف والثورة أصلا! السخرية هنا وسيلة لـ«مسخرة» الدولة وتوضيح مدى ضعفها وفسادها واعتمادها على آليات قذرة للسيطرة على الناس ولتشويه المعارضين وللحفاظ على هدف واحد لا يتغير وهو استحواذ فئة محددة على السلطة وعدم تداولها. السخرية تساعد في رسم صورة لحكامها الذين يكونون مختلين قبل أن يحكموا، ثم تزيدهم السلطة المطلقة اختلالًا، هم مصابون بكوكتيل أمراض نفسية أكثرها ظهورًا أنّ الحاكم يظن نفسه إلهًا، هل تعرف حاكمًا مصريًا لم يظن أنّه إله؟ هل تظن أنّ علينا التعامل بجدية مع شخص بهذا القدر من الجنون؟

في «عام التنين»، كما قلتُ سابقًا، مساحة اللعب أكبر وهناك تنويع في المسارات والأصوات السردية، لكن هذا التعدد موجود، بدرجات متفاوتة، في «كوكب عنبر» و«عطارد». لماذا تبتعد عن طرق السرد التقليدية؟ وهل سيكون هذا التنويع حاضرًا في أعمالك اللاحقة أيضًا؟

اللعب في «كوكب عنبر» كان قليلًا جدًا، وأكثر قليلًا في «عطارد»، والذروة كانت في «عام التنين». لكن ليست هنالك خطة لكل هذا، ربما أكتب شيئًا بسيطًا يومًا ما، وربما العمل القادم يكون كذلك.

أنا لست مصريًا ولم أزر القاهرة في يومٍ من الأيام، لكن من الواضح أنك تفرد حيزًا كبيرًا للمدينة في رواياتك؟ وإن كانت تظهر، دائمًا، بشكل كئيب أو بشع. لماذا تَحضُر المدينة بهذه القوة في أعمالك؟

ستدهش عندما تجد أن المدينة غائبة تقريبًا في العمل القادم، الاهتمام بالمدينة ناتج عن العيش فيها ومحاولة ربط الخيال الروائي بواقعها، كذلك لا يمكن أن أهمل التأمل الذي كان يسيطر عليّ أثناء التجول في الشوارع والنظر في خريطة القاهرة. أقول «كان» لأن هذا لم يعد يحدث الآن.

أوّل رواية هي نتاج ورشة كتابة، إلى أي درجة تعتقد أن ورش الكتابة مفيدة؟ وما الذي حصلتَ عليه منها؟ وفي ظلّ تكاثر ورشات الكتابة في الفترة الأخيرة، هل من الممكن أن تشارك في واحدةٍ منها مرّة أخرى، كمشرفٍ ربّما؟

مهمة جدًا، ولولا الورشة الأولى لما كتبت «كوكب عنبر»، وبالطبع يمكن المشاركة في ورشة أخرى كمشارك أو مشرف، خطأ كبير أن يَفهم الكاتب أنّه يترقّى في طريق الكتابة، وأن يتحول من تلميذ في ورشة إلى أستاذ بعد عدة سنوات، والفائدة الأكبر تأتي من وجود الكاتب في موضع المتعلم وليس المعلم.

– في «عام التنين» و«عطارد»، توجّه الشكر للأشخاص الذين قرؤوا المخطوطة وقدّموا لك ملاحظات واقتراحات. ما الغاية من فعل ذلك؟ وهل تساعدك هذه الملاحظات في إعادة العمل على النص؟ انطلاقًا من هنا ما هو الحيّز الذي تعطيه لعملية إعادة الكتابة أو تحرير النص من مجمل الوقت المخصص للعمل على نصك الروائي؟

في «عام التنين» لم يكن الحيّز كبيرًا، لا أذكر مقداره بالضبط، لكنّه كان كبيرًا جدًا في «عطارد»، ثلاث ساعات من التحرير لكلّ ساعة كتابة. ومع ذلك ظلّت هناك مشاكل كثيرة في الرواية.

استجابات الأصدقاء لا تكون متشابهة أبدًا، وعندما أتذكر ردود الأفعال على الروايات الثلاثة أبتسم، التفاوت في الآراء يكون هائلًا دائمًا، وقد لا يُعينني على إنهاء العمل وإرساله للناشر. مع ذلك لا أتخيل أني قد أنشر عمل دون العودة إلى أشخاص بعينهم وطلب رأيهم.

أنت عملت، وما زلت، محرّرًا في أكثر من دار نشر. هل غيّر ذلك شيئًا في ممارستك لفعل الكتابة أو عند العمل على نصّك الروائي؟

نعم، أظن أنّ ضبط صياغة الجملة هو أوضح فائدة، كان هذا غائبًا تمامًا في «عام التنين» و«كوكب عنبر». لكن هناك أيضًا معرفتي بأنّ الكتابة موجّهة إلى قارئ آخر، هذه المعلومة بديهية طبعًا لكنّها لم تكن دائمًا في ذهني أثناء الكتابة، بالطبع لا يمكن أن يوجّه القارئ الكاتب، لكن الأكيد أنّ على الكاتب أن يكون واضحًا دون أيّ التباس.