هجوم على الفكر الحر

بينما لم تتمكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة إلا مؤخرا من إعلان سحب رعايتها من المؤتمر الرئيس لليوم العالمي للفلسفة المزمع إقامته في طهران، تسلط نداءات المقاطعة الضوء على الوضع السيئ للعلوم الإنسانية في إيران. أليساندرو توبا يسلط الضوء على هذا الوضع وخلفياته.

بينما لم تتمكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة إلا مؤخرا من إعلان سحب رعايتها من المؤتمر الرئيس لليوم العالمي للفلسفة المزمع إقامته في طهران، تسلط نداءات المقاطعة الضوء على الوضع السيئ للعلوم الإنسانية في إيران. أليساندرو توبا يسلط الضوء على هذا الوضع وخلفياته.

، الفيلسوف الألماني الشهير مارتين هايديجير في طهران، الصورة روشاناك زنقاني
"اليوم العالمي للفلسفة سيتم إساءة استغلاله إذا كان سيشكل فائدة لدعاية النظام الذي يمنع بشكل منظم التبادل الفكري الحر ويقمع المفكرين منذ وقت طويل"

​​ "لأن الحروب تنشأ في البدء في عقول البشر"، بهذه العبارة تؤكد ديباجة دستور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، وتضيف المقدمة "يجب أن يترسخ السلام أيضاً في عقلية البشر". ويناط بالفلسفة في هذه المقدمة الدفاعية للسلام والحرية دائماً دور خاص كمحامٍ للدفاع عن مصالح البشر المشتركة.

وحين قررت اليونسكو عام 2008 إرساء تنظيم اليوم العالمي للفلسفة عام 2010 على إيران، لم يحدث هذا بالتأكيد فقط بنية التعريف بالإرث الفلسفي لإيران –من ابن سينا حتى العصر الحديث مروراً بصدر الدين الشيرازي، بل بسبب القلق المشروع على المفكرين في هذا البلد الذي تزداد عزلته يوماً بعد آخر.

فهم متأخر

وبعد وقت قصير من ذلك بدأت التحضيرات في أكاديمية طهران للعلوم والفلسفة بالتعاون مع منظمة اليونسكو لعقد مؤتمر كبير، موضوعه الرئيس "الفلسفة: النظرية والتطبيق". واستمرت هذه التحضيرات حتى في ظل الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة في صيف 2009، حيث وقع مئات الطلاب ضحية لتعذيب الأجهزة الأمنية القمعية وسقط عشرات القتلى منهم.

وحتى بعد أن اصدر الرئيس احمدي نجاد مرسوماً بتثبيت غلام علي حداد-عادل كرئيس للمؤتمر لم يثر ذلك قلق اليونسكو في البدء، على الرغم من هذا الشخص المدافع ينتمي إلى أكثر الأوساط قرباً من النخبة الحاكمة. وفي نهاية تشرين الأول/ أكتوبر فقط بدأت المنظمة التي تعنى بثقافات العالم وتتخذ من باريس مقراً لها والتي أخذت على عاتقها تنظيم يوم للفلسفة منذ عام 2005 في أماكن مختلفة في أرجاء العالم، بدأت بإعادة النظر في توجهاتها. في البدء تم الإعلان عن أن المؤتمر الذي كان يُنظر إليه كفعالية رئيسية، تُقام من 22 وحتى 24 تشرين الثاني/ نوفمبر في طهران، على مؤتمر من عدة مؤتمرات أخرى. في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر تبع ذلك التراجع بتبرير مقتضب جاء فيه "أنه لم يتم الالتزام بالشروط الضرورية لضمان تنظيم فاعل لمؤتمر عالمي لمنظمة تابعة للأمم المتحدة".

نقد ومقاطعة

الصورة د.ب.ا
"الضغط السياسي والشبهة في أن السبب الحقيقي وراء التقييم يكمن في التغطية على استباحة مؤتمر الفلسفة من قبل رجال الدين، دفعا بمنظمة اليونسكو على ما يبدو قبل فوات الأوان إلى التراجع عن عقده في طهران"

​​

من جانبه كان الفيلسوف الألماني أوتفريد هوفه، الذي كان من المقرر أن يلقي أحد المساهمات الرئيسية في المؤتمر، كان قد دعا في تموز/ يوليو الماضي إلى مقاطعة المؤتمر بعد تنصيب حداد-عادل رئيساً له. وأبدى الفيلسوف الألماني خيبة أمله من أن تحذيراته بقيت دون إجابة لفترة طويلة. وفي هذه الأثناء تراجع عدد المؤيدين في الغرب للمشاركة في المؤتمر. إن نقد المقاطعين بدأ في كانون الثاني/ يناير 2010 برسالة مفتوحة للفيلسوف الإيراني الأصل رامين جاهانبيغلو، الذي يدرس في جامعات منفاه الكندي، إلى المديرة العامة للمنظمة إيرينا بوكوفا.

إن ما شجبه جاهانبيغلو، الذي كان معتقلاً في سجن إيفن عام 2006، في رسالته، يعرفه طالب الفلسفة في طهران نيما من خلال مشاهداته الخاصة. عن ذلك يقول نيما: "إن الوضع في جامعاتنا، وفي تلك التي تدرس العلوم الإنسانية في المقام الأول، لم يعد يشير إلى كل ما ينسجم مع التفكير الحر أو المواقف النقدية بأي شكل من الأشكال. نحن في مواجهة حكم إرهابي، باتت يعشعش الآن حتى في عقول الطلبة والأساتذة ويحول دون تبادل الآراء بحرية حتى في الحلقات الدراسية".

"لاهوت التعذيب"

الصورة أ.ب
"حين قررت اليونسكو عام 2008 إرساء تنظيم اليوم العالمي للفلسفة عام 2010 على إيران، لم يحدث هذا بالتأكيد فقط بنية التعريف بالإرث الفلسفي لإيران، بل بسبب القلق المشروع على المفكرين في هذا البلد الذي تزداد عزلته يوماً بعد آخر"

​​

يقيم الفيلسوف والناشر محمد-رضا نيكفار ويعمل في ألمانيا. وفي مقالة له حول "لاهوت التعذيب" قدم مادة، كانت مبعث نقاشات طويلة في إيران. في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ساهم هو الآخر في نداء موقع من أساتذة إيرانيين يعيشون في المنفى ومن طلبة وتدريسيين في إيران أيضاً. "اليوم العالمي للفلسفة سيتم إساءة استغلاله إذا كان سيشكل فائدة لدعاية النظام الذي يمنع بشكل منظم التبادل الفكري الحر ويقمع المفكرين منذ وقت طويل"، هكذا يضع نيكفار الخطوط العريضة الحجة الجوهرية لنداء المقاطعة. وليس من الحالات البارزة هنا الفيلسوف الإيراني الأصل المقيم في الولايات المتحدة منذ 2007 محسن كاديفار، الذي يقول: "في الوقت الراهن نعيش مرحلة التصفية الرابعة في النظام الأكاديمي في إيران".

ويوضح كاديفار في المرحلة المبكرة من الثورة تم إبعاد الأساتذة الماركسية والليبراليين في البدء. وفي بداية تسعينات القرن الماضي قام النظام باستهداف مؤيدي تفسير القرآن بمنهج تفسيري تاريخي مثل عبد الكريم سوروش. ومع تولي احمدي نجاد مقاليد السلطة بدأت في النهاية موجة ثالثة، تم فيها إحالة العشرات من أساتذة الجامعات الليبراليين على التقاعد بشكل مبكر. لكن ما نعيشه اليوم، كما يقول نيكفار، يتجاوز هذا بشكل كبير. إن الأمر يتعلق هنا بهجوم منظم على العلوم الإنسانية".

وكما قال متحدث باسم وزارة الثقافة الإيرانية في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، فمن المنتظر مراجعة أثني عشر فرعاً من العلوم الإنسانية "ذات الطابع الغربي". ومن هذه الفروع التخصصات في مجال الغدارة الثقافية والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، والتي يجب أن تُصاغ بشكل يتفق مع تعاليم القرآن. أمير شيخزادغن، أستاذ الاجتماع في جامعة فرايبورغ، يتابع هذه التطورات في بلده بشكل دقيق، ويعلق عنها قائلاً: "إن هذه الحملة الجديدة تُشن على جبهتين، فمن جانب جُعل إدخال هذه التخصصات الجديدة في الجامعات الإيرانية مرتبطاً بترخيص حكومي". وبذلك يحاول المرء الحيلولة دون انتشار هذه التخصصات بشكل أكبر. ويضيف بالقول: "ومن جانب آخر يريد المرء إعادة هيكلة هذه التخصصات كي لا تشكل خطراً على النظام لا من ناحية المضمون ولا من ناحية الدارسين فيها". ومن غير المستبعد أن يُطالب الدارسون بأداء قسم الولاء عند تسجيلهم في الجامعات.

مصادرة الفلسفة

وبدأ يتضح بشكل جلي قبل مؤتمر الفلسفة الدولي المزمع عقده، أن الفلسفة بالتحديد ستظهر مختلفة عما كان عليه الحال أوقات "الثورة الثقافية الثانية". وهكذا أصبحت "فلسفة" أية الله محمد تقي مصباح اليزدي، المرشد الروحي المتشدد للغاية للرئيس أحمدي نجاد، توصف في إطار أحد اللقاءات التمهيدية بأنها "الجواب على الشكوك المستوردة من الغرب".

إن ما يسمى بالجمعية العامة للفلسفة الإسلامية، التي يرأسها إلى جانب اليزدي وداوود آمولي، الأمام السابق لجمعة قم، شخصيتان محوريتان من مدرسة حقاني المتشددة، كان لها تأثير متزايد على التخطيط للمؤتمر. ولم ينعكس هذا فقط في اللقاءات المتعددة لرئاسة المؤتمر مع رجال دين من مدينة قم، بل وفي العدد الكبير بشكل مثير للدهشة للمساهمات الإيرانية المعلن عنها، التي يجب أن يجب أن تُعرض للتقييم قبيل بدء المؤتمر. إن الضغط السياسي والشبهة في أن السبب الحقيقي وراء التقييم يكمن في التغطية على استباحة مؤتمر الفلسفة من قبل رجال الدين، دفعا بمنظمة اليونسكو على ما يبدو قبل فوات الأوان إلى التراجع عن عقده في طهران.

أليساندرو توبا
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010

الدكتور أليساندرو توبا يعمل حالياً أستاذا مساعدا زائرا للفلسفة في الجامعة الأمريكية في القاهرة.

قنطرة

مؤتمر اليونسكو في طهران بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة:
"اليوم العالمي للفلسفة" في بلد يحارب التفكير والتنوير
على الرغم من قمع النظام الإيراني للاحتجاجات السلمية في البلاد بشراسة، إلا أن طهران حصلت على موافقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" على إقامة منتدى دولي بمناسبة "اليوم العالمي للفلسفة" في هذا العام وفي هذا البلد الذي يخشى فيه المفكرون والفلاسفة على حياتهم وحريتهم. تعليق كاتايون آميربور.

الفلسفة في إيران:
بين كارل بوبر والحكمة الشرقية
يرتبط الفكر الفلسفي في إيران ومنذ عهد بعيد بالمدارس الفلسفية الغربية، وفي الآن نفسه ينكب على دراسة تراثه الفلسفي الخاص. ألسندرو توبا، المتخصص في الثقافة الإيرانية يسلط الضوء على اتجاهات الفكر الإيراني المعاصر.

ندوة بعنوان "الإرث الفكري في الإسلام":
الدراسات القرآنية العلمية على المحك
عُقدت في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت ندوة الدولية بعنوان "الإرث الفكري في الإسلام - الدراسات القرآنية المعاصرة" وشارك فيها ثلاثون باحثاً بارزًا مختصًا في الدراسات القرآنية من مختلف جامعات العالم، وتم فيها تمحيص أساليب تفسير القرآن المعاصرة بشكل نقدي. إرهارد برون يستعرض أهم محاور الندوة الدولية.