الأصولية الإسلامية حطمت الصورة الرومانسية للشرق

سيز نوتيبوم مواطن عالمي وأحد أكثر المؤلفين الأوروبيين شهرة. وفي كتابه عن الرحلات في دول إسلامية مختلفة يكشف عن كونه من المولعين بالجماليات ومن ذوي النظرة الإنتقائية. قراءة نقدية لإليا براون.

​​سيز نوتيبوم مواطن عالمي وأحد أكثر المؤلفين الأوروبيين شهرةً.. وفي كتابه عن الرحلات في دول إسلامية مختلفة يكشف عن كونه من المولعين بالجماليات ومن ذوي النظرة الإنتقائية. قراءة نقدية لإليا براون.

لسنوات طويلة بدا الكاتب الهولندي سيز نوتيبوم Cees Nooteboom مسروراً بالقول الذي تردد عنه، ومفاده أنه لا كرامة لنبي في وطنه. والتقدير العظيم الذي لاقاه في ألمانيا ذات الثقل الثقافي العظيم لم يغيّر إلا قليلاً من النظرة إليه في موطنه باعتباره مجرد كاتب رحلات، ودونما إي تكريم أدبي.

إلا أن هذه الصفحة قد طويت مؤخراً باستلام الكاتب الذي يبلغ اليوم واحد وسبعين عاماً من العمر جائزة هوفت P.C. Hooftprijs.

تكريم ألماني

تكرم دار النشر الألمانية سوركامب نوتيبوم حالياً بطبعة فاخرة لأعماله الكاملة، حيث سينشرالجزء الثامن والأخير منها في آب/أغسطس من هذا العام. نصف هذه الأعمال الكاملة هي عبارة عن تقارير عن رحلات.

من ضمن الأعمال المنشورة كتاب صغير بعنوان "رحلات في العالم العربي"، يتضمن بالأخص نصوصاً من الستينيات والسبعينيات. هذه النصوص كتبها نوتيبوم خلال رحلاته عبر مدن الحضارة العربية في اسبانيا وأيضاً خلال رحلاته عبر ايران والمغرب وتونس ومالي والهند.

الإسلام ليس بلاد العرب فقط

ليس لمالي في غرب أفريقيا، بلغتها الفرنسية الرسمية، ولا للهند، حيث اللغتان الرئيسيتان الهندية والإنكليزية، أية صلة بالعالم العربي على الإطلاق. إذاً العالم الإسلامي هو المقصود هنا –يبدو أن أحدهم قد أخطأ بعنوان الكتاب الخارجي، في حين جاء العنوان الثانوي داخل الكتاب صحيحاً.

ويبدو أنه لولا أن "العالم العربي" كان الموضوع الرئيسي لمعرض الكتاب 2004 لما ظهر هذا الكتاب على كل الأحوال، ولما كان هناك قراءة نقدية في إحدى كبريات الصحف اليومية تحمل عنوان "على بساط الريح".

نوتيبوم قوي الملاحظة، وقوة الملاحظة هذه تتميّز بها نصوص الرحلات المبكرة والحديثة معاً. "النظر هو كل ما أستطيع"، هكذا يكتب رجل البصر معترفاً، وبالفعل تنطلق كل تقارير رحلاته من الإدراكات البصرية الممعنة في الدقة قدر الإمكان.

تبدو مواد كتاباته دائماً كإطلالة مباشرة على المشهد، ينقلها الراوي كإنطباع أول غير مشوّه ولكنه يضفي عليها مسحة شاعرية. مثل الحال هنا أمام أحد المساجد:

"عندما مشيت مبتعداً عن الساحة، وصلت إلى غابة من الأعمدة الحجرية تحت سماءٍ من الحجارة القرميدية. إمرأتان مختبئتان في ملاءتيهما السوداوين، ترفرفان مسرعتا الخطى وتختفيان خلف أحد الأبواب، حيث ينبعث غناء هادئ حزين. انظر من ثقب الباب فأرى رجلاً مسنّاً بعباءة بيضاء يهزّ بجذعه ذات اليمين وذات الشمال. ما عدا ذلك خيم السكون على المكان."

ليس بالنظرة وحدها تُكْشَفُ الغُربة

إلا أن هذا السكون لا يخيم فقط على المشهد الموصوف هنا، بل على جل تقارير رحلات نوتيبوم، التي تحيا عبر أولوية النظر على السمع. ويبدو لهذا سبب بسيط جداًَ:

"يفهمونني عندما أتكلم الفرنسية، يتاح لي مجال النوم في الفنادق والتنقل بالعربات الصغيرة، إلا أن الأصوات التي أسمعها غريبة، لا أفهمها."

مؤلف كتاب "كيف يصبح المرء أوروبياً؟" خائب للغاية في أصفهان، مراكش أو تونس. ولِما كان هناك من سبب لهذا اللوم الشخصي له، لولا إستناد تقاريره عن بلاد الغربة على شهادته البصرية الذاتية وحسب. في حين أنه لا حاجة لأن يكون المرء ماركسياً، لكي يعرف أن الآليات التي توجه الحياة في العالم الحديث، لا يمكن الإلمام بها بمجرد النظر.

إختيار حر للجهل

لا نلمس اهتماماً من هذا النوع لدى نوتيبوم أصلاً: "من الأفضل أن لا يحاول المرء الإطلاع على السياسة المغربية. فبعد أسبوع من الجهود تشابكت الأمور في رأسي، لعدم خبرتي بها (...). كلا، فضلتُ عدم العودة إلى الوطن بأسماك صغيرة، فأطلقتها ثانية في البحر الواسع الذي اصطدتها منه، بحر الحكايات المتناقضة"، هكذا كتب المواطن العالمي المزعوم في عام 1960.

كل هذه الأمور معقدة جداً بالنسبة لنوتيبوم، فهو يفضل "الإرتداد إلى وضع سياحي رقيق، يكتفي بالاندهاش تحت أشجار النخيل، والجلوس قرب النافذة في الحافلة واختيار البطاقات البريدية ذات الألوان الأكثر جمالاً."

مثل هذا الجهل المختار بحرية كردّ فعل على العجز عن الحصول على المعرفة لدى المواطن العالمي، كان من الممكن أن يكون لطيفاً ومقبولاً، لو لم تتبعه هجمة على السياحة الجماهيرية:

"مدللٌ في وحدته، بات لا إجتماعياً في دلاله، يسافر الرجل الأبيض في افريقيا ولا يرى شيئاً. وأفواج السياح الآخذة في التضخم يُقادُ بها لمشاهدة بعض الحيوانات الوحشية ورقصات الأقنعة لقاء بعض المال، لا ترى شيئاً أيضاً"، كما كتب في 1971.

الواقع أكثر تعقيداً

لا! بالطبع لا يريد نوتيبوم أن يوضع في خانة واحدة مع الجُموع البليدة، فهو يرى، وبشكل كبير، حتى إذا لم يفهم شيئاً:

"ما الذي عرفته في هذا الوقت عن هذا البلد؟ أنا هنا، أقيم هنا، إلا أن كل خطوة أخطوها في الخارج هي خطوة في عالم مختلف." (1960) هذا يكفي المواطن العالمي تماماً، "كل شيء أقرأه يطيح بي إلى تشويش أكبر (...) ، بين وقتٍ وآخر يومض بوهن شيء من معنى، و لكني لا أعلم كيف يمكنني الربط بين ما أقرأه والواقع الهائل الذي أراه من حولي، فهو قويٌّ للغاية، كبيرٌ للغاية، وقديمٌ للغاية." (2003).

سواء في بلاد فارس، المغرب ، تونس، الهند أو مالي – في كل مكان يلتقي نوتيبوم بغربة محيرة مبهمة، لا تجرى محاولة فك رموزها أبداً، لأنه من المحتمل أن لا يبقى منها بعد ذلك إلا القليل.

يجب أن يتألق كل شيء قليلاً وبشكل غامض، قبل أن يغرق ثانية في تيار النسيان الكبير. وفي النهاية تبقى العافية والشعور بالغبطة:

"أكلت الكافيار من بحر قزوين وأسماك غريبة من الخليج الفارسي، ورأس الخروف كاملاً، مع اللسان والدماغ والعيون. احتسيت نبيذاً من شيراز يسبب نوعاً من الأحلام الرخيمة، يروي فيها صوت شهرزاد حكايتها، وهذا يكفي." هكذا يتوصل المرء إلى الجوائز الثقافية الحكومية.

الأصولية الإسلامية تحطم النظرة المبسطة عن الشرق

الجدير بالاهتمام في الحقيقة هي فقط خاتمة الكتاب عام 2004، التي كتبها قبل اغتيال تيو فان غوخ، ولكن بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. على خلفية واقع السياسة العالمية الحالي، تظهر نصوص الرحلات المبكرة لنوتيبوم في ضوء مختلف تماماً.

"النصوص (...) في هذا الكتاب هي تقارير مسافر بريء"، كما يُقر، "أو ربما عليَّ أن أقول: تقارير مسافر في أوقات بريئة.(...) شاهدت عالماً كما أردته أن يكون، عالماً عجائبياً، عالماً شرقياً من ألف ليلة و ليلة (...)، بقيت خارجاً، تماماً كما بقيت في الخارج عند هزائم سورية ومصر أو عند المأساة العقيمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي تمتلك تأثير عدسة حارقة في عالم قابل للإشتعال بسهولة."

هل يَقصد بهذا نقداً ذاتياً؟ هل يضع في نهاية الأمر مناظير المواطن المتعلم المتواضعة الذي سحرته وأسعدته الغربة موضع التساؤل؟

لا للأسف! نوتيبوم يأسف فقط لأن الأصولية الإسلامية سلبت منه الصورة التسطيحية لشهرزاد: "هذا الخارج لم يعد موجوداً، فهو قد جاء إلينا وسيبقى كذلك في المستقبل."

صورة غير مبهجة لدين غير متسامح

يتابع بعدها تفاهة لا مناص منها مفادها أن "مفهوم العالم الغربي الساطع في مجمل الكرة الأرضية"، يقف مقابل "الإرهاب الأصولي والسكان المسلمين الكثيرين في أوروبا"، ويتمم كل هذا بعبارة فارغة لأجل الصواب السياسي:

حل النزاع لا يمكن أن يكون "إلا في إزاحة جهل الطرفين الكبير جداً لبعضهما البعض."

على أية حال لم يسهم سيز نوتيبوم بتقارير رحلاته في إزاحة هذا الجهل ولا بشكل من الأشكال. فالإسلام سيبقى عند القاريء الأوربي "صورة غير مبهجة لدين غير متسامح"، "دينٌ يمثل خطراً، مستخفاً به، لبقية العالم، استناداً إلى غنى قرننا الحالي."

إليا براون
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2005

قنطرة

نساء أوربيات في الشرق
أسباب عديدة دفعت بنساء من دول أوربية مختلفة إلى زيارة الشرق: مرافقة الزوج الذي كان يتنقل في مهمات ديبلوماسية أو علمية، حب المغامرة أو الهرب من سطوة التقاليد الاجتماعية الصارمة في أوربا البرجوازية. أندرياس فليتش يعرفنا ببعضهن.

برنهارد فون برايدنباخ: رحلة حج إلى الشرق
نشأ فى العصور الوسطى المتأخرة نوع من السياحة الدينية المسيحية، واتجه المتدينون والمجازفون نحو الشرق لزيارة المواقع المقدسة والأماكن الغريبة. وكان برنهارد فون برايدن باخ هو أحد هؤلاء، وقد سجل مشاهد رحلاته، التي تعطينا انطباعا عن رؤيته للشرق فى ذلك الوقت

رحلة هاينريش فون مالتسان إلى مكة
"رغبة" ابن الرابع والثلاثين من العمر هاينريش فرايهر فون مالتسان "في التقصي بعمق وعناية في حياة الشعوب الشرقية وبالأخص العربية" دفعته في عام 1860 إلى الرحلة الشاقة نحو مكة، المدينة التي "لم يرها إلا إثنا عشر أوروبي مذ كانت".