''مشاف ميدانية'' في ضواحي دمشق هربا من ملاحقة الأمن

منذ بدء أزمة الاحتجاجات في سوريا قامت مجموعة من الأطباء بتشكيل ما يعرف بالمشافي الميدانية بسبب الظروف الأمنية للمناطق التي تحدث فيها المظاهرات. دويتشه فيله رافقت أحد الأطباء وزارت أحد المشافي الميدانية بإحدى ضواحي دمشق.



كان خروج المصلين من المسجد وارتفاع صوت الهتافات التي تنادي بالحرية وإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، يشير إلى العد التنازلي بالنسبة للأطباء الذين تجمعوا في ما يسمونه بالمشفى الميداني في قلب إحدى ضواحي العاصمة دمشق. وهذا المشفى ليس سوى بيت مهجور، أرضيته الإسمنتية وجدرانه المتصدعة تشير إلى أنه مهجور منذ زمن. لقد تم تعليق بعض الرفوف على الجدران لتوضع عليها المعدات الطبية البسيطة، أما في الفسحة السماوية للدار فقد وُضع سلم خشبي ليؤمن هروب الأطباء إلى الحارة المجاورة في حال مداهمة الأمن للمشفى.


 كان الجميع في ترقب شديد،  فالوقت بات وشيكا على استقبال الإصابات سواء من المتظاهرين أو من المارة الذين ليس لهم علاقة بالمظاهرة أو حتى من الأمن. لقد استقبل هذا المشفى، الذي يتغير مكانه باستمرار، مختلف الإصابات التي تتراوح خطورتها من الإصابة المميتة إلى الإعاقة الدائمة والإصابة السطحية التي يمكن معالجتها ببعض الإجراءات الأولية التي يتيحها المشفى على الرغم من سوء ظروف العمل وبساطة المعدات الطبية. انتظرنا لمدة ساعة تقريبا وبدأ صوت الهتافات يخبو شيئا فشيئا دون أن تصل إلى المشفى أية إصابة. بدأت ترتسم ابتسامة خفيفة على وجوه البعض. أما البعض الآخر فبدا عليه القلق، خشية أن يكون هناك "مخطط لدى النظام وما هو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة"، حسب قول أحد الأطباء.

المشفى الميداني .. هربا من الأمن

الصورة ا ب
دخلت المظاهرات الاحتجاجية المطالبة بسقوط النظام السوري شهرها الخامس

​​

توجهت بالسؤال عن سبب إنشاء هذه المشافي لأحد سكان الحي وهو الشاب المسؤول عن تنظيم المشفى الميداني فقال: "في بداية الأزمة  كنا ننقل الجرحى إلى مركز طبي حكومي قريب من المنطقة فقام الشبيحة بتكسيره ووجدنا الجرحى مرميين في الطرقات. كما حدثت حالات أخرى دفعتنا للبحث عن حلول. بحثنا في بيوت الأهالي عن أدنى التجهيزات الطبية من قطن ومواد معقمة ومسكنات. كما تطوع أطباء الحي لمعالجة المصابين وهكذا تم تشكيل أول نقطة طبية".

هنا تدخل أحد الأطباء في الحديث، وهو شاب لم يتجاوز الثلاثين، وقال: "توجهت إلى الحي بعد أن نادوا بالجوامع أنهم بحاجة للأطباء وقمت بمساعدتهم وبعد أن عملت معهم لفترة من الزمن رأيت أنه من الضروري تأسيس ما يدعى بتنسيقية الأطباء لمساعدة جرحى وضحايا العنف الذي يتعامل به النظام مع المواطنين السوريين". ويضيف الطبيب الشاب أنه اتفق مع مجموعة من الأطباء على إنشائها بشكل سري حتى يحافظوا على استمرارها وانتشارها بكل مناطق المظاهرات في دمشق وضواحيها. وكذلك لتأمين التعاون بين المناطق، سواء من حيث الأطباء أوالمعدات الطبية. ويكشف الطبيب بأن المجموعة أعلنت عن نفسها من خلال بيان "لحشد الدعم المادي والدولي واللوجستي. وتضم التنسيقية أطباء من مختلف الطوائف السورية وتحصل على الدعم من الجميع". ما قامت التنسيقية بإنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، ولا تقتصر خدماتها على تقديم الدعم أيام المظاهرات فحسب، بل يتعدى ذلك إلى المتابعة الطبية للمريض طوال فترة العلاج وتأمين ما يلزم له من دواء وخدمات طبية وعمليات جراحية دون مقابل.

زيارة مصاب هارب من مستشفى تابع للدولة

الصورة  ا ب
تقول جماعات حقوق الإنسان إن قوات الأمن ورجال الميليشيات قتلوا 1400 مدني على الأقل في سوريا

​​

أخيرا تفرق الأطباء بعد أن اطمأنوا على عودة المتظاهرين سالمين إلى بيوتهم وتوجهت دويتشه فيله مع الطبيب الشاب لزيارة أحد المصابين وهو رجل في الخمسين من عمره، قام الأمن بإسعافه إلى إحدى المشافي التابعة للدولة ولكن بعد أن "ضربوني بقسوة". ويضيف هذا المصاب وهو يروي قصته منذ لحظة الإصابة "كنا في المظاهرة نهتف للحرية بشكل سلمي، فقام الأمن بإطلاق النار علينا. أصيبت قدمي فوقعت أرضا وأصيب شاب أخر في صدره وبطنه، فتوجه نحونا حوالي ثمانية من عناصر الأمن و"قاموا بركلنا وضربنا بالهراوات ودعسنا بأقدامهم على كل أنحاء الجسم وأدى ذلك إلى كسر عدد من أسناني". ويواصل الرجل المصاب سرد حكايته بأن رجال الأمن قاموا بجره على الإٍسفلت إلى سيارة الإسعاف أدى إلى تقرح جلدي فيما بعد. "وقبل أن نصل إلى المشفى كان الشاب المصاب في صدره قد فارق الحياة. داخل المشفى كان البعض يعاملني معاملة حسنة والبعض الآخر يعاملني معاملة سيئة. وعندما قرر الاطباء أنه يلزمني عملية فضلت عملها بمشفى خاص وخرجت من المشفى بطريقة غير نظامية لأني شعرت أن المشفى بات خطرا على حياتي".

الإصابة دليل الإدانة

إن مثل هذه الحالات دفعت بالكثير من المصابين إلى أن يحجموا عن التوجه إلى المشافي الحكومية أو رفض كشف هوياتهم أمام الأطباء المسعفين فيها حتى لو أدى ذلك إلى موتهم، حسب الطبيب الشاب. فـ "المصاب بغض النظر عن سبب إصابته هو مجرم في نظر أجهزة الأمن السورية وحسب القانون الجديد حول حق التظاهر، وإصابته هي دليل إدانته". كما تقوم عناصر الأمن السورية بعمليات مداهمة وتفتيش في مناطق المظاهرات بحثا عن المصابين والأطباء لاعتقالهم ومصادرة المعدات الطبية للمشفى الميداني، إلا أن الأطباء مصرون على الاستمرار بغض النظر عن ما يواجهونه من مضايقات وحالات اعتقال، حسب أحد الأطباء في المشفى الميداني. ويضيف هذا الطبيب قائلا: "لو وجدت عدوي بحاجة لمساعدة طبية سأسعفه، وأتابعه طبيا، ثم أحاكمه. نحن نرى الأمل في عيون المتظاهرين، ولن نتخلى عنهم أبدا".

 

نورا الشعلان ـ دمشق
مراجعة: أحمد حسو
حقوق النشر: دويتشه فيله 2011