"الإسلام الفرنسي"... الدواعي والعقبات

استعان ماكرون بالخطاب الشعبوي المعادي للأجانب، قصد استعادة شعبيته التي بلغ انخفاضها مستويات قياسية.

ما وراء بحث ماكرون عن "إسلام فرنسي"

 

الانتخابات البلدية، فشل الإصلاحات، توتر العلاقات مع تركيا والمغرب والجزائر.

 

"الإسلام الفرنسي" ...الدواعي والعقبات

محمد طيفوري

اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تحريك عش الدبابير من جديد، بعد إعلانه، مطلع الأسبوع الماضي، نيته إقراره جملة تدابير، تروم هيكلة الحقل الديني الإسلامي في بلاده؛ منها تقليص التأثير الأجنبي على مسلمي فرنسا، باستبعاد الأئمة والمكونين والقيمين الدينيين الأجانب من العمل فوق التراب الفرنسي، وذلك بغية التصدّي لـ"الانفصال الإسلامي" الذي يتعارض مع الحرية والمساواة وقيم الجمهورية ووحدة الأمة، وقد نحتت حكومته هذا المفهوم الغريب، للدلالة على الانعزالية والتشدّد والتطرف في فرنسا.

تقوم الاستراتيجية الجديدة ضد الانفصال على أربعة محاور أساسية، يلزم العمل عليها؛ بشكل متوازٍ، قصد إنتاج "إسلام فرنسي" يتوافق مع مبادئ الجمهورية الخامسة. أولها؛ إحكام السيطرة على المساجد والمدارس وأماكن العبادة. ثم فرض السيادة الفرنسية على المرشدين ورجال الدين المسلمين، من خلال الإشراف المباشر على تكوين هؤلاء في فرنسا، حتى يتعلموا اللغة والقانون الفرنسيين. إضافة إلى إلغاء نظام الإذن للحكومات الأجنبية لتدريس مواطنيها لغات بلدانهم الأصلية؛ وخصوصا العربية والتركية. وأخيراً، تشديد الرقابة على التمويلات الأجنبية للمساجد في فرنسا، بإخضاع كل مداخيلها لرقابة الجمعية الإسلامية للإسلام في فرنسا (AMIF) التي أسِست قبل أزيد من سنة لتلك الغاية.

تسعى الحكومة الفرنسية، كما قال ماكرون، من هذه الخطة إلى حماية حوالي ستة ملايين مسلم؛ ممن يشكلون 8% من إجمالي سكان فرنسا، وأكبر جالية إسلامية في أوروبا الغربية، من مخاطر "الانفصال الإسلامي" الذي يمثل مشروعا سياسيا معاديا، يعمد المتشبعون به إلى تغليب قواعد الدين على قوانين الجمهورية. ولكن بواطن الأمر تكشف عن أشياء أخرى، جعلت الرئيس "الليبرالي" ينقلب في مواقفه، ويتنكّر لقناعات أيامه الأولى في الرئاسة، وحتى لتصريحاته إبّان الحملة الانتخابية.

"استعان ماكرون بالخطاب الشعبوي المعادي للأجانب، قصد استعادة شعبيته التي بلغ انخفاضها مستويات قياسية"

داخليا، أكثر من سبب يدفع ماكرون إلى إثارة النقاش بشأن الإسلام والجالية المسلمة في فرنسا، ففي 15 و22 مارس/ آذار المقبل، يتوقع أن تشهد فرنسا معركة حامية الوطيس في الانتخابات البلدية، يسعى فيها حزب رئيس الجمهورية حديث التشكل إلى تعبيد الطريق أمامه لولاية ثانية بعد عامين، باستغلاله موقعه في الحكومة لإضعاف الأحزاب التقليدية المعروفة في الساحة السياسية. لتلك الغاية، استعان الرئيس بالخطاب الشعبوي المعادي للأجانب، قصد استعادة شعبيته التي بلغ انخفاضها مستويات قياسية، واستمالة أصوات الناخبين من الكتلة المحسوبة على اليمين المتطرّف. وفي اختياره مدينة مولوز؛ إحدى معاقل الجبهة الوطنية في شمال شرق البلاد، لكشف معالم استراتيجيته الجديدة ضد "الانفصال الإسلامي"، أكثر من إشارة إلى ذلك.

يعتبر الساسة في أوروبا الإسلام بمثابة الحائط القصير الذي يسهل القفز عليه، فعلى المضطر لحسم معركته الانتخابية بأصواتهم العزف على وتر مشكلات المسلمين، أو الهجوم عليهم بتحويل وجودهم إلى مشجبٍ تعلق عليه مشكلات البلاد، متى أراد كسب أصوات الكتلة الناخبة

"على المضطر لحسم معركته الانتخابية بأصوات المسلمين العزف على وتر مشكلاتهم، أو الهجوم عليهم"

 للأحزاب المنافسة. أكثر من ذلك، يمكن للحزب الحاكم توظيف النقاش بشأنهم، وهذا ما نجح فيه ماكرون حاليا، للتغطية على فشل الإصلاحات الاقتصادية التي أطلقها، وأفضت إلى ظهور أصحاب السترات الصفراء؛ أكبر حركة احتجاجية في تاريخ فرنسا، منذ مظاهرات مايو/ أيار 1968. وتجاهل النقاش حول الهزات السياسية التي تلقتها حكومته؛ برئاسة إدوار فيليب، فحتى الآن غادرها 17 وزيرا أو كاتب دولة، بمعدل استقالة كل شهرين في المتوسط، آخرهم وزيرة الصحة التي استقالت قبل أسبوع.

خارجيا، فتح إيمانويل ماكرون معارك على أكثر من جبهة، فالخلاف بين باريس وأنقرة أصبح مزمنا، بعدما تحول الصراع بين الزعيمين إلى مسألة شخصية، أدت إلى مواجهة مباشرة وحرب كلامية في أكثر من ملف (حلف الناتو، قضية الأرمن، الأزمة الليبية، الملف الجزائري ..). وما قرار وقف "إعارة الأئمة" و"البعثات اللغوية" لتأطير ثاني جالية تركية في أوروبا سوى فصل جديد من فصول هذه المواجهة، بغية الحد من نفوذ تنظيمات الإسلام السياسي في فرنسا، خصوصا أن المدرسة الإخوانية التركية، بحسب تقرير "صناعة الإسلاموية" (معهد مونتاني/ 2018)، لحكيم القروي مستشار الرئيس الفرنسي، إحدى المدارس الأربع التي تنتج الإسلاموية.

بلدان شمال أفريقيا، وبالتحديد المغرب والجزائر، وتونس بدرجة أقل، معنية بقرار فرنسا مواجهة "الانفصال الإسلامي"، من خلال رعاية شؤون المسلمين على أراضيها. ما يعني وقف برنامج 1977 الذي سمحت بموجبه الحكومة الفرنسية لتسع دول بإيفاد أئمة معلمين إليها، لأن قانون عام 1905 يمنع الدولة من القيام بأي نشاط له طبيعة دينية. على هذا الأساس، سيدخل مواطنو هذه الدول؛ خصوصا التلاميذ ممن يمثلون أزيد من 80 ألفا، في قطيعةٍ مع بلدانهم الأصلية. كما يعني رفع يد بلدان المغرب والجزائر وتركيا، كما جاء في تقرير معهد بروكينغز للعام الماضي، عن إحكام قبضتها على الورقة الدينية في فرنسا.

"يصرّ ماكرون، وخبراؤه، على ولادة "الإسلام الفرنسي" على أيديهم، بعدما فشلت حكومات متعاقبة 30 عاماً في ذلك"

هذا الأمر مكسب جديد لحكومة ماكرون، فالعلاقة بين باريس والرباط تعرف، وعلى غير العادة، برودا دبلوماسيا أزيد من سنة. وما يزال "الإليزيه" عاجزا عن إيجاد مدافع جديد عن مصالحه في الجزائر، بعدما طالب المحتجزون بالتحرّر الثاني من الاستعمار الفرنسي. فيما أثار خطاب الوافد الجديد على قصر قرطاج، قيس سعيد، حفيظة الفرنسيين بخصوص كيفية التعامل معه. بهذه القطيعة، تنجح فرنسا في حرمان هذه الدول مستقبلا من أي توظيف لهذه الورقة ضدها.

يصرّ ماكرون، بمعية خبرائه، على أن تكون ولادة "الإسلام الفرنسي" على أيديهم، بعدما باءت جهود الحكومات الفرنسية المتعاقبة 30 عاما بالفشل، فالمصطلح، في حد ذاته، ليس وليد اليوم، بل يعود إلى عام 1990 مع وزير الداخلية بيير جوكس الذي شكل حينها "مجلسا تفكيريا حول إسلام فرنسي" (CRIF). ولكن هذه المساعي تحفها أسئلة عديدة؛ ألا يتجاوز الرئيس مقتضيات قانون 1905 الذي أعلن فرنسا جمهورية علمانية؛ أي دولة محايدة منفصلة عن الديانات؟ ثم هل يحق لفرنسا التدخل في كيفية مزاولة المسلمين عبادتهم، ووضع تفسيرات خاصة لنصوص دينية؟ ألن يدفع الإسلام المصنوع في فرنسا؛ على مقاس مبادئ الجمهورية، فئات عريضة من المسلمين نحو براثن الجماعات المتطرّفة؟ ألا تحيي فرنسا الإمبريالية الثقافية بقرارها قطع أي صلة ثقافية للأقليات المسلمة مع بلدانها، في وقتٍ لا تدّخر فيه جهدا للدفاع عن الفرنكوفونية ونشرها على طول العالم العربي؟